لا تقاس إدلب بالكيلومترات التي تفصلها عن لبنان، بل تقاس بتداعيات المعركة التي لم تحصل، والتسويات التي تجري حولها، ومعالجة وضع التنظيمات المسلحة الموجودة فيها، التي يفترض أن تغادرها.فعلى عكس الانشغال اللبناني بتفاصيل الخلافات الداخلية وعدم تشكيل الحكومة، تعبّر الدول الأوروبية عن قلق متزايد من تطورات سوريا والاحتمالات التي تقبل عليها دول المنطقة كلها. يكفي التحذير الذي أطلقه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان حول احتمال الحرب الدائمة في المنطقة إن لم يجرِ التوصل إلى اتفاق حلّ سياسي في سوريا. وفي موازاة متابعة روسيا وتركيا للمفاوضات حول تطبيق عملية إخلاء المنطقة من المسلحين فيها (بعد 15 تشرين الأول المقبل)، يفترض أن تشكل هذه المحطة أولوية لبنانية بالمعنى الأمني. لأن كل الحراك الإقليمي والدولي حول تنفيذ الاتفاق المذكور، وكيفية إخلاء المسلحين ومصيرهم، يصبّ في خانة واحدة: معرفة الوجهة التي يتسرب إليها هؤلاء. وهذا هو الهمّ الأساسي الذي يشغل بال الأجهزة الأمنية الأوروبية والأميركية، وهي على تنسيق مستمر مع مثيلاتها في لبنان، بسبب الخوف الدائم من أن تكون أوروبا والولايات المتحدة مقراً لهؤلاء، وخصوصاً في ظل أزمة النازحين المتفاقمة.
وإذا كان هذا الخطر قد أصبح بنداً أولياً على طاولة اجتماعات الأمم المتحدة ودول أوروبا، فكيف يمكن لبنان أن يكون في معزل عمّا يجري، وعمّا يتوقع أن يحصل في هذه المرحلة الحساسة أمنياً. من هنا فإن كل كلام عن انتفاء الخطر بسبب البعد الجغرافي لإدلب عن لبنان، ليس منطقياً، بالعلم الأمني، ولا يخدم الاستقرار. بدليل أن الأجهزة الأمنية انشغلت أخيراً بحسب معلومات «الأخبار» بملاحقة متسللين إلى لبنان والقبض على عناصر جاؤوا من إدلب، وهم قيد التوقيف والتحقيق. وهذا التوقيف ليس منعزلاً عن ترابط بين من هم في إدلب ومن هم في لبنان، ولا يمكن التعامل معه على أنه حدث فردي، لأن ثمة استنفاراً تعيشه الأجهزة الأمنية المختصة، لمواكبة مرحلة إقليمية خطرة، تشكل تحدياً بشأن مستقبل التنظيمات المسلحة بعد سنوات من صعودها الصاروخي في الإقليم. وهذا الاستنفار كان أمرا حتمياً حين توجهت أنظار العالم إلى إدلب والاستعداد لحصول معركة فيها. أما اليوم، فصار ضرورياً أكثر، بعدما تم الاتفاق الروسي - التركي في سوتشي، بمباركة إيرانية لاحقة، على وقف أي عمل عسكري. لأن الاتفاق يتعلق في جزء أساسي منه بانسحاب هذه التنظيمات، وتسليم المسلحين سلاحهم الثقيل. وعلى هذه النقطة سيُفتح الباب أكثر على واقع هذه التنظيمات ومستقبلها، وإلى أين ستكون وجهتها.
حزب الله يستفيد من وجوده في سوريا لمراقبة الحدود ومنع انتقال مجموعات إلى لبنان


من الواضح أن حزب الله، وقد جدد أمينه العام السيد حسن نصرالله تأكيد استمرار وجوده في سوريا، ولو بعد التسوية في إدلب، متنبه أكثر فأكثر إلى هذه التطورات والاحتمالات التي تنتج من الاتفاق المذكور. وهو أساساً يتولى بدقة مراقبة كل الخطوط التي قد تشكل منفذاً لمسلحي إدلب، وغيرهم، للمجيء إلى لبنان. ويستفيد الحزب من وجوده في حمص والقصير والمناطق المتاخمة للحدود الشمالية والشمالية الغربية من جهة سوريا، لمعاينة دقيقة للأرض عملانياً، من أجل سدّ كل الثغر الأمنية، من الجانب السوري، ومنع أي تفلت مسلح نحو لبنان. وقد رفع الحزب أيضاً مستوى معاينته لهذه المناطق القريبة من الحدود، بعدما تضاعفت الخشية من رفع التنظيمات المذكورة مستوى عملياتها واحتمال انتقال مسلحيها إلى لبنان.
لكن إجراءات حزب الله من جهة، وتدابير القوى الأمنية، لا تمنع بطبيعة الحال تسلّل مسلحين، والإفادة من بعض الثُّغر لإعادة إحياء مجموعات مسلحة وتزويدها بما تحتاج لتنفيذ عمليات إرهابية. وهنا تقع على عاتق الأجهزة الأمنية، في الداخل وعلى الحدود، مسؤولية رفع مستوى الاستعداد لمرحلة خطرة ناتجة من تطورات ما بعد اتفاق سوتشي. وعلى هذه القاعدة تشكل الحدود الشمالية تحدياً متواصلاً لمنع التسلل، خصوصاً أن هناك الكثير من المعابر غير الشرعية ومجموعات التهريب المتواصلة، فضلاً عن حركة داخل لبنان لتسهيل مرور المسلحين، الذين يتحولون مدنيين في لبنان، ويمكن تهيئة بيئة ملائمة لعملهم فيه. وهنا يطرح مجدداً مصير البؤر الأمنية والتجمعات السورية التي سبق أن شهدت احتضاناً مماثلاً لهذه التنظيمات، وهل في قدرة الواقع الأمني اللبناني ضبط هذه التجمعات بدقة، خصوصاً أن المرحلة الفاصلة عن 15 تشرين الأول حساسة جداً ومفصلية، لأنها ستشكل بالنسبة إلى مسلحي إدلب فرصة حقيقية للردّ على استهدافهم وإخراجهم من سوريا. وهذا يحتاج إلى تحييد ملف النازحين عن التجاذبات السياسية والتذرع الإعلامي بالواقع الإنساني، وتسليط الضوء مجدداً على ملف أمني بحت، مرتبط بوجود النازحين السوريين والتواصل بين مسلحين في سوريا وبين مؤيدين لهم، لبنانيين وسوريين على السواء.