أحدهم نام، بهدوء، أثناء الندوة. كثيرون ناموا. أحدهم نام وسُمِع «شخيره». أيقظوه. ثالث أطلق رائحة كريهة، بصوت مسموع، داخل القاعة الصغيرة. تابع الإنصات لـ«المُحاضِر» كأنّ شيئاً لم يكن. تضاءل عدد الحاضرين، لاحقاً، فبادر المنظّمون إلى الطلب مِن الجالسين في الخلف أن يتقدّموا إلى الأمام. لا يُراد لعدسة مصوّر أن تلتقط ذاك الفراغ. القاعة صغيرة جدّاً. ندوة تدوم لأكثر مِن خمس ساعات، يتناوب على الحديث فيها أكثر مِن عشرة أشخاص، مع مداخلات مِن الحاضرين، ثم تكون المحصّلة، باستثناء «واقعة الريح» طبعاً، أنّه... لا شيء. يحصل هذا عندما تُريد دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، عبر سفارتها في بيروت، أن ترعى ندوة عن «دور الإعلام في مكافحة التطرّف». جرى ذلك، أمس، في «معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة» (الجامعة الأميركيّة في بيروت).المتكلّم الأوّل كان الإعلامي رياض طوق. جاء ليتحدّث عن «الإعلام المتطرّف العنيف». هذا الذي كان يصوّر القوى الأمنيّة، في برنامجه، أثناء القبض على «الأشرار» وما شاكل. قدّمته، في الندوة، إعلاميّة تُدعى هنادي زيدان. الأخيرة قالت مفتتحة: «الإمارات قدوة لنا. لازم نتعلّم مِنها، وكذلك طبعاً المملكة العربيّة السعوديّة». السفير الإماراتي، حمد سعيد الشامسي، ومعه القائم بأعمال السفارة السعوديّة، وليد البخاري، كانا جالسين في الصفّ الأوّل. تبسّما لها. ويبدأ طوق في ما أسماه «المحاضرة تبعي». بالنسبة إليه، فإنّ «المنطقة خربت بعد بروز الدور الإيراني». هنا، قرّر أن يشكر سفير الإمارات لتشريفه بالمشاركة في الندوة. تبسّم له الأخير. الإعلامي المذكور يتحدّث عن أبي مصعب الزرقاوي، في العراق، الذي «كان أوّل متطرّف يوثّق القتل بالتصوير». يبدو أنّ المتحدّث لم يُشاهد أحداث أفغانستان والشيشان أو حتّى «أبو سيّاف» (الفيليبيني) سابقاً. يلوم الإعلام اللبناني لأنّه ينشر، بالتفاصيل، القرارات الظنيّة الصادرة عن القضاء. فاته أنّ هذه القرارات، بحسب القانون، هي الوحيدة (قبل صدور الحكم) التي تُستثنى مِن السريّة ويجوز نشرها. ندوة أمس مليئة بالمغالطات. هي نفسها مغالطة. فجأة، وللمرّة الألف، يتوجّه للسفير الإماراتي ليشكره على «النموذج الذي تقدّمه بلاده للمنطقة، عبر وزارة السعادة ووزارة التسامح، هنيئاً لكم».
الآن يأتي دور الصحافي راشد فايد. جاء ليتحدّث عن «أخلاقيّات المهنة والحرفة الإعلاميّة». قال إنّ تهمة العراق كانت «امتلاك قنبلة نوويّة» قبل اجتياحه. بالمناسبة، الحديث الدولي، آنذاك، كان عن أسلحة دمار شامل، لا عن قنبلة نوويّة تحديداً. أميركا نفسها لم تقل ذلك. هذا جزء مِن «دقّة» الصحافي و«موسوعيّته» طبعاً. تحدّث عن انتهاء الإعلام كمهنة وحرفة في اللحظة الراهنة (في زمن السوشل ميديا). هذه أصاب فيها. فجأة قال: «لو كان في دولة بلبنان ما كان بكون في سلاحين. ما في شي اسمه مقاومة». هنا نظر إلى الحاضرين في الصفّ الأول. راقب وجوههم. لم يخيّبوه: ابتسموا له. بعد فايد جاء دور المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير، أيمن مهنّا، ليتحدّث عن «ثقافة قبول الآخر». سرد أرقام بعض الدراسات. برأيه، مِن أسباب الانزلاق نحو «التطرّف» هو «التبعيّة لقائد، أيّ قائد». في هذه الأثناء قرّر القائم بأعمال السفارة السعوديّة أن يُغادر. ربّما لأنّه أحد «القادة»؟ ممكن. الأكيد أنّ محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، هو «قائده». لعلّ مهنا كان الوحيد، في الندوة، الذي قال شيئاً (له معنى). تطرّق إلى أنّ المشكلة تتعلّق بالسجون، بما فيها «سجون دول الاعتدال». هنا قرّرت إحدى الحاضرات أن تُصفّق وحدها. هذه لم يبتسم لها أحد. انتهت الجلسة الأولى. طوق يجيب على سؤال، موضحاً أن «الإرهاب» لا يرتبط فقط بالمسلمين السنّة، فيذكر اسم وديع حداد، على سبيل المثال، كأحد «الإرهابيين». قال لأنّه «كان يخطف طيّارات» (أوووف). الإعلامي نوفل ضو كان بين الحاضرين. في مداخلته لام «الفريق الثاني (أي فريقه) لأنّه لا يردّ في موضوع اختفاء الصحافي السعودي جمال الخاشقجي». لن يطول الانتظار لتأتي الجلسة الثانية، التي «يُحاضر» فيها الإعلامي نديم قطيش، والذي، طبعاً، لن يُخيّب زميله ضو.
ويظهر نديم قطيش. نجم الندوة الذي... الذي جاء ليقول: لا شيء. هو على «تويتر» أكثر «تطبيلاً». هناك يجود أكثر. فاز أخيراً بجائزة أشطر «مبيّض طناجر» (في موضوع خاشقجي). استخدم في كلمته، أمس، الكثير مِن المصطلحات بالإنكليزيّة. قال هو «اللعيب». وعلى سيرة اللعب، قال قطيش: «إنّ جريدة «الأخبار» مِن الذين فهموا اللعبة في الإعلام. يكون هناك حدث يشغل الآخرين، فتصدر في اليوم التالي مبرزة قضيّة أخرى، مثل زراعة الدواليب المستعملة، وهكذا نكون أمام شيء جديد». شكراً نديم (يا مهضوم). هو هنا في الندوة ليتحدّث عن «التطرّف في وسائل التواصل الاجتماعي». رهيب اختياره لهذا الدور. قطيش «معتدل» قال! تطرقّ إلى موضوع «الأخبار الكاذبة» (فايك نيوز) و«سياسات الهويّة» وأشياء أخرى. قطيش يزعجه، بحسبه، أن نكون مثل القبائل «فلا نتواصل إلا مع مَن هم مثلنا». كأنّ الندوة مليئة بضيوف مِن أصحاب الرأي الآخر! هذه تُفهم مِن الإمارات، الراعية، ولكن ماذا عن الجامعة الأميركيّة، الحواريّة والانفتاحيّة والتعدّدية إلخ! هذه ندوة أم جلسة حزبيّة سريّة؟
أخيراً، تحدّث «الفيلسوف» رضوان السيّد. «هلك» السامعون بترديده كلمة «السُنّة». الرجل يبدو، خلال السنوات الأخيرة، ممروضاً بالشيعة. يُريد أن يكون مثقفاً رفيعاً، مِن طراز النقديين الكبار، لكنّ قدره أنّه قريب جدّاً مِن السعوديّة. يُريد أن يكون «مصلحاً». ينادونه «مولانا». هو لم يكن في يوم إلا «شيخاً» بلا عِمّة. ذهب العمر ولم يُصبح محمد أركون. هو حاول، ولكن، تبّاً. لم يأتِ معه إلى الندوة فارس سعيد. كانا يُريدان، يوم اختطاف سعد الحريري في السعوديّة، أن يقودا الجماهير الثائرة. كانت الخيبة. تحدّث كثيراً عن «إحباط السُنّة». بأسلوب، أقرب إلى «الشوارعي»، قال إنّ لكلّ طائفة في لبنان علامة: «عند الشيعة هناك الحشيشة، عند المسيحيين هناك العلاقة مع إسرائيل، أما السُنّة فمسألة الإرهاب». المال هو الحلّ. هذه خلاصته لتخليص البيئات الفقيرة مِن جو الإرهاب «السُنّي». يتوجّه إلى متموّلي الطائفة: «انقبروا ادفعوا لدار الفتوى». هو يعمل حاليّاً كمتعهّد مشاريع «إصلاحيّة» في الدار المذكورة. لديه مأخذ على «السلفيين السُنّة». يقول منتقداً: «عم تقتلوا الشيعة، طيّب ليش عم تقتلوا المسيحيين كمان؟». يكاد الرجل «يميز مِن الغيظ». سيقتله إحباطه. كلّ هذا جرى أمس تحت عنوان «مكافحة التطرّف». خمس ساعات مِن الكلام عن... لا شيء. هذه هي الندوات الثقافيّة السعوديّة والإماراتيّة... مع تحيّات الفريق ضاحي خلفان والدكتور فضلو خوري.