حين سأل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عشية تطورات عام 2000 وما تلاها عن أي لبنان نريد «هانوي أم هونغ كونغ»، كان يطرح إشكالية تتعلق بدور المقاومة والوجود السوري في وجه النهوض الاقتصادي والمالي الذي كان عرابه حينها الرئيس الراحل رفيق الحريري.بين عام 1990 و2005، نجح مشروع سوريا في لبنان، لكن وجه الأزمة السياسية حينها، ظلّ مغلفاً رغم كل الخضات السياسية والمواجهة التي خاضها خصوم سوريا في لبنان معها، بحركة اقتصادية وضخّ أموال جعلت البلد، إلى حد كبير يستكين تحت وطأة الحركة المالية والمشاريع الاقتصادية، رغم كل الاعتراضات على سياسة الحريري الإنمائية والعمرانية.
اليوم، يرى من رافقوا تلك المرحلة أن مشروع هانوي في طريقه إلى أن يحقق انتصاراً، إن لم يكن قد حققه فعلياً، مع انتخاب العماد ميشال عون وتشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري والضغوط التي يمارسها حزب الله اليوم عليه وعدم وجود خصوم لمواجهته، وصولاً إلى ما حققه في تطورات سوريا. وهذا لا يعني أن مشروع هونغ كونغ كان ناجحاً بفعل الأزمات الاقتصادية والخسائر والانعكاسات السلبية الكثيرة التي تركها على الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان، لا بل قد يكون أحد الإسهامات الرئيسية في ما وصل إليه لبنان من انهيار سياسي واقتصادي.
إلا أن ثمة جانباً آخر لانعكاس هذا الانتصار بالمعنى العملاني. فنجاح المشروع السياسي لحزب الله وخلفه إيران، يختلف بتداعياته عمّا تحقق في مرحلة إحكام النظام السوري سيطرته على لبنان، برعاية أميركية وفرنسية وسعودية ودولية كبرى. لأن الضغوط المالية والاقتصادية، التي يعيشها لبنان منذ سنوات وتتراكم سلبياتها، تتعدى في ثقلها وخطورتها ما سبق أن عاشه في السنوات الماضية، وهي مرشحة لأن تحمل تأثيرات مباشرة على كل القوى السياسية وليس حزب الله وحده المعني بالعقوبات الأميركية المتوقعة.
فإذا كان هذا المشروع السياسي يثبت نجاحاً يوماً بعد آخر، إلا أن نجاحه يأتي فيما تتدهور أوضاع دول المنطقة وتتكاثر أزماتها الأمنية والاقتصادية، والأهم أنه يتحقق فيما تعود إيران إلى دائرة العقوبات الأميركية، مع ما لذلك من تبعات مالية واقتصادية، رغم محاولات الاتحاد الأوروبي للوقوف في وجه الإدارة الأميركية، وتحييد واشنطن دولاً عدة عن حصار النفط. فإيران بنفسها تعترف بالأزمة المالية، والأمور قد تكون مرشحة لمزيد من التفاقم، وهذا طبعاً من شأنه أن ينعكس على حلفائها في لبنان. وليس هؤلاء وحدهم ممن قد يتأثرون بانحسار الأموال التي تضخّ في لبنان. فالسعودية ودول الخليج، هي أيضاً أوقفت مساعداتها المالية، وجمدت ما كان يدخل إلى البلد عبر مشاريع وهبات وعبر تخصيص حلفائها بدعم مباشر. وإذا كانت أزمة الرئيس سعد الحريري وشركاته واحدة من تجليات تشابك العناصر المالية والسياسية، فإن الانسحاب الخليجي قبل الانتخابات النيابية وبعدها، عن ضخ الأموال في لبنان، يتركز أكثر نتيجة فشل المشروع السياسي لهذه الدول في لبنان، ونتيجة أيضاً لتراجع الكتلة السياسية المؤيدة لها، أمام تقدم الفريق السياسي الآخر. وهذا الأمر بات ملموساً لدى أكثر المقربين من هذا المحور، بعدما شهد الصراع الإقليمي تنافساً سياسياً ومالياً انعكس بوضوح على معظم أفرقاء المحورين.
المستهدَف بالعقوبات فريق سياسي يحقق خطوات متقدمة على طريق تثبيت مشروعه


لا يمكن فصل الأزمات المالية عن الأزمات المتلاحقة، لأن الشح المالي الذي يصيب كل القوى السياسية، هو أحد أوجه الصراع السياسي في لبنان، في كل مفاصله الأساسية، بحيث يريد الجميع تعويض ما توقف ضخه أو تضاءل تدريجاً، بعدما باتت «الهبات العشوائية» من الماضي. وفي انتظار خروج النفط وتأمين الموارد التي يريد الجميع أن يتقاسمها قبل تحولها أمراً واقعاً، يشكل التنافس على حقائب الخدمات واحداً من تجليات هذه الأزمة، لأنه لم يسبق أن تنافست كتل كبرى على هذه الحقائب كما يحصل اليوم، وتكاد تحولها حقائب سيادية. فكل القوى السياسية التي تعاني تراجعاً في مصادر تمويلها، وبرز ذلك بوضوح في الانتخابات النيابية، باتت أمام تحدي تأمين وزارات تصرف من خلالها من موازنات الدولة، على محازبيها من طريق الخدمات. وتتحول هذه الوزارات واحدة من الأذرع العلنية السياسية والمالية للأفرقاء السياسيين، يتنافسون بشدة عليها. وإذا كان ذلك قد بات من إحدى العادات السياسية التقليدية، فإن الأزمة الاقتصادية الكبرى والمرشحة للتفاعل أكثر مع العقوبات الأميركية وبفعل عوامل باتت معروفة، معطوفاً عليها تراجع مساهمات المحاور الإقليمية عن تقديم دعمها المالي، ستضع جميع القوى سواسية أمام تحديات مالية واقتصادية. علماً أن أزمة مشابهة عرفتها طبقة سياسية وإعلامية مع إنحسار الأموال بعد حروب العراق وليبيا وتونس. إلا أن أزمة اليوم لها امتدادات إقليمية ودولية أكثر حدة، لأن المستهدف فريق سياسي يحقق خطوات متقدمة على طريق تثبيت مشروعه. في حين أن المشروع الذي يتراجع أمامه فقد أيضاً الغطاء الإقليمي والخليجي، والدفع «بلا حدود». لذا، تصبح الحاجة ملحّة إلى نفقات من جيب الدولة التي يريد الجميع الانضمام إليها تحت مسمى حكومة وطنية.