يدخل تأليف الحكومة فصلاً جديداً، بعدما حدد كل من الرئيس المكلف سعد الحريري والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، موقفيهما، فأزالا كل الالتباسات والتأويلات. فحسما كل على طريقته، أمر الحكومة التي طارت إلى أجل غير مسمى.من مفاوضات الأيام الأخيرة، يمكن النظر إلى الرئيس المكلف، من خلال عيون خصومه ومؤيديه. فرغبة الرجل الذي شكل حكومته الأولى في 9 تشرين الثاني عام 2009، وحكومته الثانية في 11 تشرين الثاني عام 2016، واضحة بالبقاء في السرايا الحكومية، لفترة أطول مما قضى فيها في الحكومتين الماضيتين. وفيما أدت به التجربة الأولى إلى البقاء خارج لبنان، فإن التجربة الثانية أعادته رئيساً للحكومة، معيداً وصل ما انقطع مع خصومه.
التجربة الثالثة في تأليف الحكومة، بعد التسوية الرئاسية، وضعته في دائرة الضوء الدولي والإقليمي، بحيث بات يتمتع برعاية دولية حين يضطر إلى خوض أي مواجهة محلية أو إقليمية. لكنه أيضا استفاد داخلياً في إعادة ترتيب أولوياته في نسج علاقات يستخدمها حين تدعو الحاجة، تارة يعطي الأفضلية للقوات اللبنانية، وتارة يعطيها للرئيس نبيه بري، أو لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، فيما بقي يعطي علاقته مع رئيس الجمهورية ميشال عون موقعاً مميزاً. لكن بدا واضحاً في المرحلة الأخيرة أنه يرفع مستوى علاقته معه إلى المرتبة الأولى. صحيح أن تجارب تشكيل الحكومات ما بعد الطائف، تختلف بظروفها وحيثياتها عن تلك التي نشهدها اليوم، لكن ثمة مفارقة تتعلق بأداء الحريري، لم يسبق أن حصلت مع أسلافه، وهي ظهوره في الساعات الأخيرة وكأنه يحتمي برئيس الجمهورية ويستند إليه لا العكس. فيتكئ على موقفه وصلاحياته في التشكيل، على رغم أن لا صلاحيات له بالمعنى التفصيلي، لا بمعنى التوقيع على المرسوم فحسب، ويؤكد توافقه معه في مفاوضات التأليف.
عادة كانت بوصلة الحريري تأخذه إلى بري أو جنبلاط، في معالجة ملفات شائكة كالتي تحصل اليوم، إلا أنه يسعى حالياً إلى تأكيد أنه ورئيس الجمهورية في خندق واحد، كما يحاول أن يستعيد مجدداً تزخيم علاقته بالقوات والحزب التقدمي الاشتراكي على رغم فتور أخير، في مواجهة مطالب حزب الله الحكومية.
إصرار الحريري على رفض توزير سنة 8 آذار بأي شكل من الأشكال، وتأكيد انسجامه مع موقف عون، يعيد تعويم التسوية التي جمعتهما، على رغم أنهما وصلا في بعض اللحظات إلى الصدام. والمفارقة أن الحريري يبدو الأكثر تمسكاً بها، فيكاد يصبح أحياناً في الموقع الأضعف. ونقطة ضعفه على رغم أنه آت بحسب الاستشارات الملزمة، ولا يوجد نص دستوري لسحب التكليف منه، أنه يحتاج إلى الحكومة، كمظلة حماية له، فلا يريد التخلي عنها، فيعطي تبريرات عدة لاستمراره كرئيس مكلف فلا يعتذر. إضافة إلى أنه يواجه خصومه الإقليميين والمحليين، في مرحلة ينشغل فيها الحلفاء عنه، وفيما تكثر الضغوط على السعودية، وتتخلى واشنطن عن مقاربة ملفات لبنان، فلا يبقى له سوى فرنسا التي تسعى في كل مرة إلى تخفيف أجواء القلق حوله. أما نقطة قوته، فتنحصر في وجوده رئيساً لحكومة تصريف الأعمال، لا يقدر أحد أن يعزله أو أن يقيل حكومته كما حصل سابقاً. وقوته أيضاً بحسب مؤيديه أنه عزز موقفه الرافض لتوزير سنة 8 آذار سواء كانوا من حصته أو حصة رئيس الجمهورية أو أي طرف آخر، نازعاً أي التباس حول احتمال القبول بهم من حصة الآخرين. وهو بموقفه رفع سقف التحدي مع حزب الله، بإصراره على عدم التراجع، فحول بذلك أزمة الحكومة إلى أزمة الحكم. طالما أن عون عبّر علناً عن تأييده له في الموقف نفسه.
للمرة الأولى يلعب الحريري على الوتر الذي يربط رئيس الجمهورية بحزب الله


للمرة الأولى يلعب الحريري على الوتر الذي يربط رئيس الجمهورية بحزب الله. قد يكون من المبالغة أن يقفز هو أو أي طرف آخر، إلى توقعات خروج رئيس الجمهورية من الموقع التحالفي الذي هو فيه. لم يخرج عون منه سابقاً ولن يخرج حالياً، مهما كان نوع الإشكالات بينه وبين الحزب. ثمة رهان في هذا المجال، يعول عليه معارضو حزب الله، بأن ثمة نقزة عونية من الحزب، بسبب أمرين: الأول حساس وله أهمية مفصلية، يتعلق برفض الحزب إعطاء عون والتيار 11 وزيراً أي الثلث المعطل، برأي المعارضين؛ والثاني توزير سنة 8 آذار والتحديات الكلامية المتبادلة. لكن من المبالغة المراهنة على أن يتحول هذان البندان عنواناً لقطيعة بين عون والحزب، أو ارتداداً من رئيس الجمهورية أو التيار تجاه حليفهما. لأن الطرفين حددا سقف خلافهما الأساسي، كما اتفاقهما. ما دون ذلك يبقى من القضايا التي تعالج بحسب ظروفها، مهما بلغت خطورتها. إلا أن الحريري بحسب مؤيديه، أراد الاستفادة من تفاهمه مع عون ليرفع سقف التحدي مع حزب الله. وهو بذلك رمى الكرة في ملعب عون ووضعه أمام معضلة حقيقية، في كيفية التوصل إلى إخراج مشرف للحكومة، فلا ينكسر العهد، ورئيسه الذي تولى بنفسه إعلان رفضه لتوزير سنة 8 آذار، كما إيجاد مخرج مع حزب الله. وبذلك يربط الحريري نفسه بالعهد، فإما يؤلفان سوياً الحكومة أو يبقيان سوياً في أزمة سياسية مفتوحة.