مفارقة أن يتحول رئيس الجمهورية ميشال عون «حارساً» لاتفاق «الطائف» على لسان سياسيين، ممن رافقوا مراحل صياغة الاتفاق وتنفيذه. لعلها مفارقة لافتة، بالنسبة إلى شخصية عُرفت بمعارضتها لـ«لطائف»، ودخولها حرباً بل حروباً ضده، ومطالبات مستمرة أولاً بإسقاطه ومن ثم بتعديله. لكن عون، الذي انتظم على مرّ السنوات الماضية في نظام «الطائف»، وأصبح رئيساً للجمهورية وأقسم يمين الحفاظ عليه، يتحوّل في مفاوضات تشكيل الحكومة إلى أحد المتمسكين به، ناهيك عن مواقف تصبّ في إطار تطبيقه نصاً لا عرفاً.في يوميات تصرف «العهد» والتيار الوطني الحر، ودخولهما في أحيان كثيرة في متاهات الحياة السياسية بتفاصيلها الصغيرة، وفي محاولاتهما إلغاء خصومهما، يمكن أن يُكتب الكثير. و«التيار» يزيد من مستوى هذا التدخل، إلى الحد الذي يعرضه و«العهد» لهجمات كثيرة ومتكررة. لكن في المقابل، وضَعت مفاوضات الحكومة رئيس الجمهورية في موقع آخر، جعل سياسيين يتعاملون معه من زاوية سياسية بحتة، لا علاقة لها بالنزعة إلى التحكم والسيطرة في تفاصيل الحكم، بل من خلال استعراض حيثيات سياسية مطروحة للنقاش. واستطراداً، هل يمكن القول أن عون بات ضمناً يدافع عن «الطائف» في شكل صامت، كآخر حصن يشكل خط دفاع عن مصالح الجمهورية الحالية وعن مصالح المسيحيين الذين لم يبق لهم سوى «الطائف» دستوراً ومرجعاً؟
قد يكون السؤال عبثياً بالنسبة إلى من يتهمون عون بالانقلاب سابقاً على هذا الاتفاق. لكن الجواب أيضاً قد يكون لافتاً، إذا ما تم استرجاع مراحل تشكيل الحكومة الحالية والتحضير لحكومة جديدة. وقبلها أيضاً، حين وقف حاملاً ملف التوطين الفلسطيني، فدافع دولياً وإقليمياً عن حق لبنان في رفضه كما نص الدستور، في حملات متواصلة. كما حوّل قضية النازحين السوريين قضية كبرى، بتداعياتها الخطرة على الكيان، دولياً وإقليمياً أيضاً، في حين لم يقف معه فيها رئيس حكومته الأولى ووزيره المكلف بهذا الملف. ناهيك عن فرضِه والتيار الوطني إيقاعاً جديداً في الإدارة، لم يعد سهلاً العودة عنه مستقبلاً، من خلال التوظيفات والتعيينات، حتى في أدق التفاصيل، كما حصل أخيراً في انتخابات رابطة الأساتذة المتفرغين واستخدام «التيار» في شكل لافت كلمة المثالثة في بيانه عن مقاطعة الانتخابات.
حكومياً، وللمرة الأولى منذ «الطائف»، أسست حكومة «العهد» الأولى لمنطق الشراكة الكاملة بين المسيحيين والمسلمين. سمّت القوى المسيحية، وزراءها، أخذت حصصها، ونالت ما كانت تطالب به منذ سنوات، علماً أن عون، وقبل توليه رئاسة الجمهورية، غالباً ما أوقف تشكيل حكومات متتالية كي يحصل على ما يريده من حصص. استعادت الحكومة الحالية «الحق» الذي كانت تطالب به القوى المسيحية، من الذين انقلبوا على «الطائف» في زمن الوجود السوري. ثمة «بدلة» فصّلها السوريون أيام وجودهم في لبنان، وحصل كلّ من حلفائهم على جزء منها، فكانت بذلة واسعة فضفاضة، اتسعت لهؤلاء الحلفاء الذين ملأوا الفراغ المسيحي بحلفاء لهم. في السنوات الأخيرة، ضاقت هذه البذلة على أصحابها، بعدما طالب أفرقاء جدد بما يحق لهم فيها، حتى ضمن الفريق الواحد، كما فعل حزب الله حين أخذ حصة له، وكما يفعل اليوم سنّة مستقلون أو «سنة 8 آذار». سحب المسيحيون تدريجياً حصصهم من القوى السياسية الأخرى، وبخاصة من الرئيس سعد الحريري، بشخصه وكوارثٍ لأبيه، وكذلك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. في مناقشات الحكومة الأولى لـ«العهد»، جرى أول تكريس لعرف جديد، يختلف عن الأعراف التي تكرست خلال تطبيق «الطائف السوري». وفي مناقشات الحكومة الثانية، يتكرس دور رئيس الجمهورية في التمسك بصلاحيات أعطاه إياها «الطائف». وبصرف النظر عن رأي عون السابق في ضرورة تعديل تلك الصلاحيات، يصر رئيس الجمهورية اليوم على أن يُحافظ على صلاحياته، من واقع رئاسي ومسيحي على السواء، متمسكاً بدوره في تشكيل الحكومة، ورافضاً أن تؤخذ منه، وأن تُملى عليه شروط تشبه مراحل سابقة. من هنا حصّن ومعه «التيار» طبعاً موقعه، ومطالبته بأحد عشر وزيراً، كانت من ضمن تلك الصلاحيات بمعناها الأوسع. مَن يحق له التشكيل وإصدار مراسيم تأليف الحكومة، هو الذي يحق له فرطها. ولعل هنا بعض المآخذ عليه، في أنه عند هذه النقطة بالذات، عاد إلى يوميات المماحكات السياسية. ولأن الرئيس لا يملك حق التوقيع الوزاري الذي يطالب به عون لثلاثة وزراء، بل الحق الأكبر والأعلى شأناً، الذي يمكن أن يحصل عليه إذا ما اتفق مع حلفاء له على حصة من 11 وزيراً، بصرف النظر عن هوية هؤلاء، فيوسع دائرة المنتمين إلى الحكومة بدل إقصائهم.
كان من الطبيعي لرئيس الجمهورية بعد الانتخابات النيابية، وما حصل عليه تياره من مقاعد نيابية، أن يخوض معركة تثبيت موقعه في الحكومة الجديدة. صحيح أن معركته «المسيحية» اتسمت بأبعاد داخلية، لكن معركة تشكيل الحكومة في نهاية المطاف أصبحت معركة برؤوس كثيرة. جاءت مشكلة «سنة 8 آذار»، لتضع عون في مواجهة حلفاء أقربين وحلفاء التسوية، لذا فُهِمت معركة حزب الله هذه أنها لإحراج الرئيس المكلف كما رئيس الجمهورية نفسه، بعدما أصبحت المعادلة أن لا حلّ من دون إعطائه وزيراً من حصته، ما دام الرئيس المكلف يرفض ذلك. وحتى الآن، يرفض عون إلا أن يسمي وزراءه بنفسه، فلا يتخلى عن صلاحيته هذه، فهل يمكن له بعد كل هذا المسار أن يتخلى عن إيقاع فرضه بنفسه منذ أن أصبح في قصر بعبدا؟
يقف عون موقفاً دقيقاً، في تمسكه بصلاحياته، حتى تجاه الرئيس المكلف، لأن الأخير حين يدافع عن صلاحيات رئيس الحكومة وفق «الطائف»، إنما يدافع أيضاً عن مرحلة تطبيق «الطائف» وأعرافه غير المكتوبة التي طُبّقت. وإلا لماذا الانتفاض «السُني» كلما أثير موضوع النظام الداخلي لمجلس الوزراء، أو أثيرت صلاحيات ونفوذ مؤسسات ومجالس تابعة لرئاسة الحكومة عرفاً وقانوناً، من مجلس الإنماء والإعمار إلى الهيئة العليا للإغاثة وغيرها. قد تكون التسوية الرئاسية غطّت، حتى الآن، بعض الرغبات في الانتفاضة على أداء عون في ملفات داخلية، لكن ملامحها تظهر سريعاً عند أي احتكاك فعلي. هذا ما أظهرته مفاوضات الحكومة أخيراً.