في ختام عام 2018، يبدو الوضع الاقتصادي في لبنان خطراً للغاية. وكالات التصنيف خفضت رؤيتها المستقبلية من «مستقر» إلى «سلبي». «غولدمان ساكس» محذّراً: «إلى متى يمكن تمويل العجز؟». على المسار نفسه، كانت هناك مقالات في «ذي إيكونومست»، «فايننشال تايمز»، «بلومبرغ» و«رويترز». الكل يرى أن لبنان على شفير السقوط. قد يكون 2019 عام السقوط. التصحيح واجب، لكن من يدفع الفاتورة؟ثمة من يمكن تتويجه بتاج الوقاحة عام 2018: المستفيدون من النظام اللبناني الفاسد، الذين راكموا الثروات وضاعفوا رؤوس أموالهم مئات المرّات، ويطالبون اليوم بـ«التصحيح». عن أي تصحيح يتحدثون؟ مرّة يريدون تصحيحاً على حساب رواتب موظفي القطاع العام. إذا نجحت خطّتهم فستكون رواتب العاملين في القطاع الخاص وكل من يتقاضى دخلاً بالليرة اللبنانية، فريسة لهذا التصحيح أيضاً. ومرة أخرى يتحدثون عن تصحيح في الاقتصاد الحقيقي. يغفلون عمداً الحديث عمن سيدفع كلفة التصحيح. يتناسون أن التصحيح يجب أن يبدأ فوراً بالدين العام ليعيد بعضاً من الأموال المنهوبة، ثم ينتقل إلى الاقتصاد الحقيقي. عليهم أن يدفعوا الحصّة الأكبر من هذه الفاتورة قبل أي حديث عن رواتب اللبنانيين في القطاعين العام والخاص.

الاستقرار النقدي مهدّد
في مقالته الشهرية الواردة في «الموجز الاقتصادي الشهري» الصادر عن جمعية المصارف، يقول الأمين العام للجمعية مكرم صادر الآتي: «إن تثبيت سعر صرف الليرة على مدى عقدين ونيّف أعطى اللبنانيّين قوة شرائية لعملتهم الوطنية جعلت الاستيراد بأحجام غير مبرَّرة اقتصادياً أو اجتماعياً ممكناً. فإذا أردنا الإبقاء على الاستقرار النقدي، بات ضرورياً، بل ملحّاً، خفض فاتورة الاستيراد. قبل الحرب اللبنانية في مطلع سبعينيّات القرن الماضي، كنا نغطّي ما بين 50% إلى 70% من الاستيراد بالتصدير، وبتنا اليوم نغطّي فقط 14.5%. المعالجة النقدية بالفوائد والهندسات لاستجلاب العملة الصعبة لم تعد كافية. والمطلوب تصحيح في الاقتصاد الحقيقي، أي في ما ننتج وفي ما نستهلك كبلد. فعسى أن تجرؤ الحكومة العتيدة على اعتماد سياسات وإجراءات تتناسب مع مخاطر الواقع الذي وصلنا إليه».
المعطيات التي استند إليها صادر ترد في تقرير لإدارة الإحصاء المركزي عن تقديراتها للحسابات القومية لعام 2017. تخلص الإدارة إلى أن النموّ بلغ 0.6% في 2017 مقابل 1.6% في 2016 مقارنة مع متوسط سنوي بين 2011 و2017 يبلغ 1.7%. كذلك يستنبش من هذه الحسابات أن الدخل القومي الإجمالي (GNI) في 2017 يعادل الناتج المحلي الإجمالي، أي أن تحويلات اللبنانيين المغتربين تتباطأ. كانت هذه التحويلات أعلى من تحويلات الأجانب العاملين في لبنان بقيمة 2.45 مليار دولار في 2016، لكنها انخفضت إلى 1.2 مليار دولار، ما يعني أن «هناك عملية استبدال للعمالة اللبنانية بعمالة أجنبية»، فيما «القدرة على تصدير العمالة اللبنانية مقابل التحويلات المالية إلى البلد تتقلّص عاماً بعد عام، وربما وصلت بدورها إلى حدودها القصوى».

نموذج للتهجير والإثراء
في الواقع، إن خلاصة صادر التي تربط بين الاستقرار النقدي والتصحيح في الاقتصاد الحقيقي، تجتزئ ما حصل فعلاً منذ عقدين ونيّف. تظهر الأمر وكأن النموذج الاقتصادي اللبناني صُمّم من أجل رفع مستوى رفاهية اللبنانيين الذين أصابتهم شراهة الاستهلاك، لا من أجل تهجير 800 ألف لبناني منذ 1990 حتى 2015 بحثاً عن عمل. كأن زيادة رؤوس أموال المصارف من 140 مليون دولار في عام 1992، كما ورد في كتاب ألبير منصور بعنوان «الانقلاب على اتفاق الطائف»، حتى بلغت اليوم نحو 21 مليار دولار، بحسب تصريحات رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه، كأن هذه الزيادة الفلكية أمر عادي. بالتزامن مع ذلك، ارتفع الدين العام من أقل من 3 مليارات دولار ليصبح اليوم أكثر من 80 مليار دولار، وإذا احتسبنا ديون مصرف لبنان المملوك من الدولة، فإن الدين العام الإجمالي يفوق 130 مليار دولار. المريب أن أكثر من 60% من أرباح المصارف تأتي من توظيف أموالها في الدين العام.
ازدادت رؤوس أموال المصارف من 140 مليون دولار إلى 21 مليار دولار


هذا النموذج الاقتصادي، الذي لم يعد خافياً على أحد أنه لم يعد قابلاً للحياة أكثر، يقوم على استقطاب العملات الأجنبية من الخارج عبر رفع أسعار الفائدة المحليّة مقارنة مع الفائدة العالمية بأكثر من ست نقاط مئوية. تأتي هذه الأموال إلى لبنان، فيمتصّها مصرف لبنان ويحتفظ بالدولارات ليتمكن من القيام بتثبيت سعر الليرة مقابل الدولار من خلال الإمساك بالعرض والطلب في سوق القطع، ولخلق الثقة التي تجذب المزيد من الدولارات من الخارج، ولتمويل حاجات الخزينة للاستدانة بالدولار. أما الاستدانة بالليرة، فقد أمسك بها مصرف لبنان أيضاً وطبع النقود للاكتتاب بسندات الخزينة، في مقابل إصدار شهادات إيداع بالليرة بفوائد أعلى تكتتب بها المصارف.
ولكي يستمرّ هذا النموذج، كان لا بدّ من أن تتوافر ظروف إقليمية ودولية تحفّز تدفّق الأموال إلى لبنان، أي أن الثقة المحلية ليست كافية أصلاً لاستقطاب الدولارات من الخارج، بل تحتاج إلى عوامل خارجية تدعمها أيضاً. وهذا ما حصل تحديداً في نهاية 2008 بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية، إذ تدفقت مليارات الدولارات إلى لبنان هرباً من الأزمة وطمعاً في جني عائدات الفوائد المرتفعة.

تداعي «اسطورة» المناعة
هذه الظروف لم تكن دوماً متوافرة للبنان، ما دفع «النموذج» نحو الانهيار أكثر من مرّة. الذاكرة القصيرة لدى اللبنانيين، فرضت التغاضي عن أهداف انعقاد مؤتمرات الدعم من «باريس 1» و«باريس 2» و«باريس 3» وأخيراً «باريس 4» المعروف باسم «سيدر». كان الهدف إنقاذ النموذج الاقتصادي اللبناني من الانهيار. حتى صمود هذا «النموذج» في وجه الأزمات السياسية والأمنية، مثل اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وحرب تموز 2006، كان «مدعوماً» من دول خليجية وأجنبية. محلياً، آلة الدعاية السياسية ــــ الطائفية صوّرته بأنه «أسطوري». فمن بعد ما كان رفيق الحريري منقذ لبنان (بسبب مؤتمرات الدعم)، جرى التمجيد بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. عومل الرجل كأنه «إله» يعلم ما في الغيب وقادر على القيام بمعجزات تخمد الأزمات قبل أن تولد. حتى الأمس، كان سلامة هو الذي يحرّك الاقتصاد بسبب دعم القروض، أما اليوم فقد تبيّن أنه «مزروك»، وأن سياساته النقدية تدفعه إلى تجفيف دعم القروض (القروض السكنية تشكّل القسم الأكبر منها). هكذا بدأت تتداعى أسطورة الصمود والمناعة المالية التي روّج لها على مدى العقود الماضية. هذا الكلام تدعمه مؤشرات مالية؛ أبرزها عجز ميزان المدفوعات (الفارق بين الأموال التي تخرج من لبنان وتلك التي تدخله) للسنة السابعة على التوالي. فبحسب جمعية المصارف، سجّل ميزان المدفوعات عجزاً في نهاية تشرين الأول بقيمة 3 مليارات دولار (هذا الرقم يأتي بعد «تلاعب» مصرف لبنان بمكوّنات ميزان المدفوعات)، وهو عجز يسجّل منذ 2011 إلى اليوم باستثناء عام 2016 حين نفّذ مصرف لبنان هندسات مالية لاجتذاب الدولارات من الخارج، وأمّن ــــ نتيجة لها ــــ للمصارف أرباحاً استثنائية فاقت الـ 5.5 مليارات دولار، قبل أن يضطر إلى رفع أسعار الفائدة وإبقاء الهندسات «شغالة». أسعار الفائدة الفعلية اليوم، تتجاوز 20% على الودائع بالليرة، وتتجاوز 9% على الودائع بالدولار. هذا المستوى الخيالي من الفوائد كافٍ وحده للإشارة إلى حقيقة الأزمة وطبيعتها.

التصحيح: شامل وعادل؟
السؤال الذي لا يمكن التغاضي عنه اليوم هو: أين ذهبت كل هذه الأموال، من مساعدات دولية وتحويلات المغتربين، والودائع...؟ في الواقع، منذ 1993 تدفقت إلى لبنان رؤوس أموال تقدّر قيمتها بنحو 280 مليار دولار، استعملت لتمويل العجز التجاري المقدّر بنحو 261 مليار دولار، وغذّت مضاربات عقارية (المبيعات العقارية) يقدّر حجمها بأكثر من 170 مليار دولار، ورتّبت مديونية عامّة وخاصّة تبلغ 4 أضعاف مجمل الناتج المحلّي السنوي، وهذه المديونية تضخّمت أكثر من 36 مرّة حتى باتت حصّة الفرد الواحد تبلغ 41 ألف دولار، منها 17 ألف دولار نتجت من الدين العام الحكومي، و12 ألف دولار من الدين على مصرف لبنان، و5 آلاف دولار تقريباً من القروض السكنية والاستهلاكية للأسر والأفراد، و7 آلاف دولار من دين القطاع الخاص.
هذه قطعاً ليست رفاهية. بل هي كارثة تستوجب التصحيح. من أين يبدأ هذا التصحيح؟ هذا هو السؤال المطروح اليوم لا غيره. التصحيح يجب أن يكون شاملاً وعادلاً. وبرأي الوزير السابق شربل نحاس أن دينامية الأزمة في لبنان لا تزال قابلة للتصحيح الطوعي، وإن كان الوقت ينفد. عند انفجار الأزمة، لن يكون بالمقدور السيطرة على النتائج. التصحيح الطوعي يفترض أو يوجب توزيع الأعباء الناجمة عنه، أو كلفته، بشكل عادل بين اللبنانيين وضمن خطّة واضحة.
في المقابل، لم يرَ صادر من هذه الخطّة سوى التصحيح المتّصل بالاستهلاك. هو يبرّر لمصرف لبنان قيامه بخنق القروض التي سينجم عنها خنق الاستيراد في بيئة اقتصادية استهلاكية. هو أصلاً يغفل عمداً، الحديث عن التصحيح المالي ــــ النقدي، وهو الأمر الطارئ اليوم الذي يجب أن يستكمل بتصحيح اقتصادي ينفّذ على المدى القصير. ولم يأت على ذكر كلفة الاستقرار النقدي على الاقتصاد، وأسوأها تم تجميد الأجور في لبنان لفترات طويلة، سواء في القطاعين العام والخاص، وتكبيد اللبنانيين فاتورة هائلة من الدين العام وخدمته من دون مردود اقتصادي. هذا هو جانبه من الحقيقة، حيث يتم التهويل على اللبنانيين بربط الاستقرار النقدي باستهلاكهم المموّل بالدين من المصارف. التصحيح يجب أن يبدأ من خدمة الدين العام، كما كرّرها رئيس المركز الاستشاري للدراسات عبد الحليم فضل الله. هكذا فقط يبدأ إصدار فاتورة التصحيح. أي كلام آخر، مثل كلام صادر، يعني أن السقوط سيكون مزدوجاً. سقوط النموذج، وسقوط اللبنانيين في فخّ تحالف السلطة والمال.