ضاقت به الأيام. جاء من بيئة فقيرة وطاردة. غامر وهاجر. حطّ في فنزويلا، وفيها وجد عملاًبانتظاره، فصار مع رفقائه هناك ورشة حزبية. كانت زغرتا، مسقط رأسه، وكانت العقيدة مسكن رأسه. خاض في المغتربات، وعلى امتداد نصف القارة الأميركية، نضالاً دؤوباً. كان الزمن يومذاك، هو الزمن الفلسطيني ولافتته سلاح المقاومة. لم تأخذه هموم التجارة وجمع المال. لا يعرف إلا لفة واحدة، هي لفة النضال. فبنى لنفسه سمعة مرهفة ونقية على المستوى الحزبي، وفشل في أن يبني له بيتاً، فيما القصور من حوله كالفطر.
عائلته اللائقة به، لم تكن بسوية العائلات المحظوظة. كل رأسماله، أخلاقه وأحلامه القومية.
إن سئل عن أمرِ ما، يفقد الجواب. هو لا يعرف غير الحزب، ولم يعمل، منذ نعومة شبابه، حتى لحظة فراقه إلا في حزبه، برغم مخاض الصراعات والانحيازات والفئويات.
أشهد أنه كان الأشد التزاماً، فلم يُعرف عنه مرة، أنه تخلى عن الاصطفاف داخل الصفوف، لا خارجها. كأنه من سلالة الرهبان الذين ينذرون حياتهم لطقس النضال، بلا تعب ولا منّة. ميزته اللامعة، حزبيته. كان وظل واستمر حزبياً عقائدياً، في زمن التخلي والانسحابات والتمردات والخروج. مذهل في إيمانه، وعنيد في التزامه، وليّن جداً مع رفقائه، يرعاهم ويفهمهم ويداريهم، ويرشدهم إلى صراط الوعي الحزبي. ولأنه كذلك، ارتقى في سُلّم المسؤوليات. كانت المسؤولية أعلى منه، وهو كان دونها، تواضعاً ونضجاً. في فنزويلا، ظل المسؤول الأول. ولما عاد إلى لبنان، تدرّج في صفوف المسؤولية. كان الحزب يومها حزبين، على عداء ودماء. رفض التزام الفئوية وحاربها. وله اليد الطولى، برغم الآلام والاحقاد، في رأب الصدع الكبير وفي إعادة توحيد الحزب، في أوج أزماته. فهو، عن حق، من صنّاع الوحدة، ومن المتصدين للفرقة مهما بلغت التنازلات. يحاور حتى الثمالة، وأحياناً إلى حدود الفجر. ولكنه لم يكن مساوماً.
انتخب رئيساً للحزب السوري القومي الاجتماعي لمرتين، وكانت الرئاسة الصعبة، فكيف يوفق بين موقعه، وصراعات المواقع الراسخة، التي فجرت الحزب مرتين. خطا بتمهّل. لم يرضِ الفريقين المتنازعين، ولكنه أرضى نفسه، فانسحب بهدوء من أدّى المهمة بأمانة وألم.
من صفاته، أنه ديموقراطي جداً، ونقدي دائماً، ومحاور بلا كلل. متفرغ للتأمل والتساؤل والبحث عن أجوبة.
هذا الذي نذر حياته لحزب سعاده، عاش فقيراً، تربى فقيراً، كبر فقيراً، ومات فقيراً. إن فقره شهادة له، في زمن الثراء والفحش.
مِثله يُفتقد. عذره الموت. قتله بسرعة الفتك، فخسرته العائلة وخسره رفقاؤه وأصدقاؤه والمحبون. ولا عزاء، إلا باستعادة سيرته والتشبه بها. كثيرون منا، يقولون الآن: إلى اللقاء. من دونه ينقص الكلام والحوار والاحترام.