لا يُلام سفير دولة أجنبيّة، أيّ دولة، أتيح له أن ينتشي بممارسة سلطويّته على سجناء لا حول لهم ولا قوّة. تُلام السُلطة المحليّة، بمختلف مفاصلها، الآخذة بالانحدار نحو قاع لا قاع له، ومعها إعلام يُشبهها، مهمّته «التبخير» الرخيص للرخيص.ليكتمل مشهد الإذلال، أمس، كان ينقص أن يُقبّل سجناء لبنان يد السفير الإماراتي. جُعِلوا في طابور، يتقدّمون بالدور، والآن عليهم أن يتقدّموا بالشكر له. لم يكتف السفير بذلك، إذ تحوّل إلى مُستنطِق أهطل، فراح يسأل كلّا مِنهم: «جوّا أحسن أو برّا؟ بتحب ترجع؟». حتّى زميلنا زافين قيومجيان كان ليستغرب بلاهة كهذه. بعد ذلك كان يقول لكلّ سجين، بنبرة آمر سلطوي: «اشكر المحافظ وسلّم عليه». وبالفعل، كان المحافظ يتلقى الشكر منتشياً. ملامح وجه السفير كانت مليئة بالدهشة. إنّه يعيش مغامرة ممتعة، ما كان ليعيشها في دولة أخرى، إذ لم يُسمع عن كائنات ما، في سلطة ما، في دولة ما، سمحت لسفير دولة أجنبيّة أن يستعرض «إنسانيّته» بإذلال سجنائها. كان أحد المنظّمين، أمس، كلّما أنهى سجين طقوس الإهانة، نادى: «غيرو»... فيأتي «غيرو». كان ينقص أن يُنادي محافظ الشمال، رمزي نهرا، في تلك اللحظة: «عَ التفاهة يا بطيخ». الأخير هو المنظّم لحفلة الذلّ هذه، إذ قاد السفير الإماراتي إلى سجن القبّة في طرابلس، ليدفع غرامات متأخّرة عن نحو 20 سجيناً. كم دفعت الإمارات في هذه الهمروجة؟ الجواب: 50 مليون ليرة لبنانيّة (نحو 33 ألف دولار أميركي). هكذا، حتّى ماليّاً، كانت حفلة رخيصة. مبلغ يدفعه أيّ «طويل عمر» في سهرة عابرة. مَن يذكر حكايات وزير الداخليّة السابق مروان شربل مع قضايا السجون؟ قبل نحو 7 سنوات، سعى شربل في تأسيس جمعيّة خيريّة، ونجح في إخراج أكثر مِن 100 سجين مقابل 300 ألف دولار، ومع ذلك لم ينظّم حفلة لإذلال السجناء، ولم يجعلنا نرى وجه سجين على الهواء مباشرة (ظلّت الجمعية التي يرأسها طلال مقدسي في نشاطها، حتى بعد رحيل شربل عن الوزارة، فبلغ مجموع السجناء الذين دفعت عنهم الغرامة 372 سجيناً، بمبلغ وصل إلى 982 مليون ليرة).
كانت «همروجة» أمس تُنقل على الهواء مباشرة. نقلتها قناة «الجديد» تحديداً، قاطعة برنامجها اليومي، حتّى لا يفوتها تأريخ تلك اللحظة الاستثنائيّة. لم يعد ذلك جديداً على «الجديد» التي لم تشبع بعد من تلميع صورة السفير السعودي. ورغم عدم شبعها من «فناجين قهوة» وليد البخاري، وسّعت نطاق وظيفتها لتشمل زميله الإماراتي حمد الشامسي. لعلّ ذاك السجين، الذي أعطى ظهره لمراسلة القناة وغادر، موحياً بالقرف مما يحصل حوله، كان يُجيب عن سؤال لم يَطرحه عليه أحد: «حلّوا عن ظهري يا زراطة... العمى بقلبكم ما أجلقكم». مصطلح «زراطة» يعني، بحسب مسلسل «ضيعة ضايعة»، الشيء الرديء أو عديم النفع. في نشرة الظهيرة، على القناة المذكورة، موّهَت وجوه السجناء الذين ظهروا أثناء البث المباشر. ولكن ما الفائدة بعدما ظهرت قبل ذلك؟ الخبر ورد في عناوين النشرة كالآتي: «السفير مُحرّراً عدداً مِن السجناء». مُحرّر؟ «أوف شو قويّة هيدي!». في بلادنا، ليست ناضجة بعد فكرة أن للسجين كرامة. بالمناسبة، مُطلَق سجين له كرامته، وحقوقه الإنسانيّة، مهما كان جرمه. وبالمناسبة مرّة أخرى، ليس كل سجين تكون جريمته «شائنة».



يُمكن أن يُسجن بسبب حادث سير، مثلاً، أو بسبب عمله كصحافي استقصائي قرّرت السُلطة الانتقام منه، أو ربما لمجرّد أنّه ضرب يوماً شخصاً يُشبه المحافظ نهرا. صحيح أن الأخير ضخم الجثّة، وهو قاضٍ سابق، لكن هذا لا يمنع إمكان ضرب من يشبهه. هذا وارد كاحتمال. كيف سمح نهرا لنفسه بأن يُدخِل سفير دولة أجنبية على سجناء بلده ليذلّهم بشكره، قبل أن يستجوبهم، وقوفاً، بذاك الأسلوب «الأهبل»؟ ما رأي مجلس القضاء الأعلى بهذه المسرحيّة؟ أليس القضاء هو المرجعيّة التي تُحدّد مَن يُسجن ومَن يُطلَق سراحه، وأن السجناء، بإسقاط الحريّة عنهم، هم وديعة القاضي خلف القضبان إلى حين انتهاء محكوميّتهم؟ هذا في القانون، أمّا في الواقع، فيُخبرنا النائب العام لدى محكمة التمييز، القاضي سمير حمّود، أنّه «لم يُشاهد الأخبار ولم يسمع بخبر تلك الزيارة». لا يفوته أن يذكّرنا بأن المسؤول عن السجون هو المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، التابعة لوزارة الداخليّة، وبالتالي لا علاقة للقضاء بذلك. في الواقع، تبيّن لنا لاحقاً أن للقضاء علاقة فعلاً، لكن، ولسببٍ ما، اقتصر «العلم» هذه المرّة على النيابة العامة في الشمال، التي، كما علمنا، لم يكن المحافظ نهرا أعلمها بأن وسائل إعلام ستدخل لتنقل الحدث مباشرة. ماذا عن وزارة الداخليّة؟ لا يبدو أنّها كانت على علم مسبق بما جرى. لعل لبنان، في فرادة إضافيّة له، هو البلد الوحيد الذي يُمكن لمحافظ فيه أن يتواصل مع سفير دولة أجنبيّة، وينظمّ له نشاطاً، بكلّ ما يحمله مِن مدلولات سياسيّة، ثم لا تكون وزارة الداخليّة على علم بالأمر، ولا أيّ وزارة أخرى، بما فيها العدل، فضلاً عن القضاء. كم هو قويّ ذلك النهرا.
في هذا السياق، يُذكر أن وزارة الداخلية ظلّت، وفق ما أسّس لها الوزير السابق شربل، تنظّم بشكل شبه سنوي برامج دفع غرامات متأخرة عن سجناء معسرين. حصل هذا أيضاً في عهد الوزير الحالي نهاد المشنوق. آخر مرّة فعلتها الوزارة كانت قبل نحو سنة، وذلك عبر بعض المتبرّعين، إذ نجحت في توفير ما يقرب مِن 70 مليون ليرة، أي أكثر بـ20 مليوناً مِما دفعته الإمارات عبر سفيرها. لعلّ المشنوق يضحك الآن مِن مسرحيّة أمس. هل سيكون على المقرّبين من السفير السوري في لبنان أن ينظّموا له زيارة مماثلة لسجن آخر؟ ماذا عن جولة للسفير الإيراني إلى سجن ثالث، وهل يُستثنى مِن ذلك السفير الفنزويلي؟ نهرا، والساكتون عنه، إنّما يفتحون أبواباً لا يسهل إغلاقها. هؤلاء «سياديّون» قال. مجموعة مِن المُملّين. مهلاً، الحدث أمس كان في طرابلس. أين أثرياء طرابلس، أو ما فوق الأثرياء فيها، مِن مبلغ 50 مليون ليرة بدل غرامات لسجناء أنهوا محكومياتهم؟ أين ميقاتي والصفدي وحلاوة الجبن؟ أين «أهل الخير» وما شاكل مِن «تجليط»؟
مَن لم «يشتغل» بالسجناء بعد؟ مَن لم يتّخذهم «منصّة» للتجارة والعبور والظهور بعد؟ عندما احتاج القضاة إلى مدخول، إضافيّ، فرضوا على ذوي السجناء ضريبة مقابل كلّ زيارة. بعض «أهل الخير» يقصدونهم في موسم الأعياد، أحياناً، لمدّهم ببعض «البطانيّات» وما شاكل، وهذه ثمن مجموعها لا يصل إلى ثمن الكاميرا التي تسبق الجميع لتغطية «الحدث». البعض حوّل السجناء على أدوات اختبار لأشياء مِن قبيل «العلاج بالدراما» وغيره، وكلّها أفلام بأفلام. الآن جاءهم السفير الإماراتي ونهرا، وغداً الله أعلم. السجناء أضعف شريحة في أيّ مجتمع، ومعلوم أنّه ليس ثمّة مَن ينطق باسمهم، ويُدافع عنهم، ليس لهم حريّة (في العمق) أن يرفضوا شيئاً أصلاً. هم مسرح استعراض العضلات، وبهم تكتمل مشهدية الأخيار والأشرار، وأن هناك دولة. السجناء «فشلة» أساساً. هم لا يختلفون عن كثيرين ينعمون بالحرية، خارج القضبان، سوى أنّهم فشلوا في إخفاء الأدلّة... فحلّوا عن ظهرهم.