تسعى إسرائيل، وفقاً لتعبير وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى «منع تحويل سوريا إلى لبنان ثانٍ». في المقابل، يسعى حزب الله إلى منع تحويل لبنان إلى سوريا ثانية. يمكن القول، باختصار، إن هذين الاستحقاقين يلخّصان حالة الكباش المتصاعدة بين الحزب وتل أبيب في الأشهر، وربما السنوات، القليلة الأخيرة. «لبنان ثانٍ في سوريا» تعني، بحسب المعلن إسرائيلياً، عدم السماح لإيران بترسيخ تموضعها العسكري في سوريا، بما يشمل تحويل الجولان إلى جبهة ساخنة من جهة، وإنشاء جاهزية عسكرية ــــ صاروخية بالدرجة الأولى ــــ تُفعّل يوم الأمر ضد العمق الإسرائيلي، من جهة أخرى. أما «سوريا ثانية في لبنان»، وبعيداً عن أصالة هذه العبارة التي لم تنسكب بعد كاصطلاح في الأدبيات الإعلامية المتداولة، فيمكن شرحها وفقاً لتفسيرين مترادفين: إحداث تغيير في قواعد الاشتباك القائمة بين المقاومة وإسرائيل، كما عبّر السيد نصر الله أول من أمس، بما يؤدي إلى انتزاع تل أبيب «الحق» في توجيه ضربات عسكرية أو أمنية داخل الأراضي اللبنانية ضد أهداف ترى أنها تشكل تهديداً يستدعي معالجته وقائياً. التفسير الثاني، وهو عبري المنشأ، يتحدث ببساطة عن نقل «المعركة بين الحروب»، التي تمارسها إسرائيل في سوريا منذ ستة أعوام، إلى لبنان.و«المعركة بين الحروب» هي، باختصار، استراتيجية نشاط هجومي وقائي اعتمدتها تل أبيب بُعيد اندلاع الأزمة السورية، وظيفتها الأساسية الحؤول دون تعاظم قدرات حزب الله من خلال استهداف عمليات نقل وتخزين الأسلحة الاستراتيجية التي قرر الحصول عليها. على أن غاية هذه المعركة، التي تقع في فترات الأمن الجاري ما بين الحروب الكبرى، هي إدارة الصراع مع القوى المعادية لإسرائيل في إطار العمل على:
أولاً: إبعاد الحرب الكبرى المقبلة؛
ثانياً، التوفير الدائم للظروف المؤاتية التي تجعل هذه الحرب، عندما تندلع، ممكنة وسهلة وسريعة الحسم، وبالقدر الأقل من الخسائر المدنية والعسكرية (راجع «الأخبار»، 24 أيار 2016). وقد تعاقبت عناوين عدة في الأدبيات الإسرائيلية على الأهداف التي تمحورت هذه المعركة حول معالجتها، بدءاً من «الأسلحة الكاسرة للتوازن»، والتي عَنَت في حينه منظومات الدفاع الجوي والبحري المتطورة (لجهة دقة الإصابة وبُعد المسافة)، مروراً بمنع التموضع العملاني لحزب الله والحرس الثوري الإيراني في الجولان السوري، وانتهاءً بعموم التموضع الإيراني الآنف الذكر في سوريا وبما يُطلق عليه «مشروع الدقة» الذي يجهد حزب الله لحيازته، والمقصود منه تحويل «الصواريخ الغبية» التي يمتلكها الحزب إلى «صواريخ ذكية» دقيقة الإصابة.
والمعلوم أن الحرب الكونية على سوريا، التي استنزفت الدولة وجيشها وشغلت محور المقاومة بأولوياتها شبه الحصرية، شكلت بالنسبة إلى إسرائيل فرصة انتهازية مكّنتها من المبادرة إلى معركتها تلك في ظل الرهان على أرجحية الأمن من ردود مقابلة. يصبح مفهوماً، والحالة هذه، كيف أن معركة تل أبيب بين الحروب لم تبدأ إلا بعد اندلاع الأزمة السورية (بنحو عام ونصف عام) ولماذا انحصرت جغرافيّاً هناك وسط امتناع فعلي عن نقلها إلى لبنان، استناداً إلى الردع الذي كرّسته المقاومة وتصرّ على استمرارية نفاذه دون أدنى هوادة.
ويمكن القول إن الكباش المتصاعد في الأشهر الأخيرة بين استحقاقي «تحويل سوريا إلى لبنان ثانٍ» و«تحويل لبنان إلى سوريا ثانية» يعبّر أكثر من أي شيء آخر عن تنامي حدة الشعور الإسرائيلي بأن «المعركة بين الحروب» استنزفت نفسها ووصلت، من حيث فعاليتها المجدية، إلى تخوم النهايات (بالمناسبة، ثمة أصوات داخل إسرائيل بدأت تتحدث عن ذلك). فمن جهة، جاء «الرد الرمزي» الصاروخي على الجولان ضد الهجمات الأخيرة ليوحي بأن ما كان ليس بالضرورة هو ما سيكون (راجع «الأخبار»، 22 كانون الثاني 2019)، وأن ما حذر منه التقدير الاستراتيجي الأخير الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي بشأن انغلاق نافذة الفرص التي وفرتها الحرب السورية لإسرائيل أكثر واقعية مما يظن البعض. ومن جهة أخرى، يعكس ارتفاع منسوب التهديدات الإسرائيلية ضد «مشروع الدقة» في لبنان، أكثر من أي شيء آخر، قدر التهيّب الذي تستبطنه تل أبيب إزاء العمل داخل لبنان واحتمالات التدهور الذي ينطوي عليه هذا الأمر.
يسعى حزب الله إلى منع تحويل لبنان إلى سوريا ثانية


كلام السيد نصر الله في مقابلته الأخيرة من شأنه أن يرفع أي لبس بهذا الشأن. تحذيره نتنياهو من التمادي في ما يقوم به في سوريا ودعوته إلى عدم الخطأ في التقديرات هناك، وجزمه القاطع بأن المقاومة في لبنان في حالة تربص عملاني لتدفيع تل أبيب ثمناً مؤلماً ضد أي اعتداء على الأراضي اللبنانية، هما بمثابة إعلان أولي بأن «المعركة بين الحروب» في سوريا أوشكت على نهايتها، وإعلان نهائي بأنها غير قابلة للاستنساخ في لبنان. يعني ذلك، من الناحية النظرية، أن الخيارات القائمة أمام إسرائيل تراوح بين الانكفاء المدفوع بالخشية من أكلاف المغامرة بالمضيّ قدماً في الاستراتيجية القائمة، وبين المغامرة نفسها بما تنطوي عليه من احتمالات التدحرج نحو مواجهة واسعة، كما أشار نصر الله.
يعني ما تقدم أن الفلسفة التي قامت عليها «المعركة بين الحروب» باتت في حالة تحدّ وجودي مع مقوماتها. الاستمرار طويلاً بها، أو محاولة نقلها إلى الساحة اللبنانية، لن يبعدا الحرب الكبرى، أو يخفضا خسائرها المقدرة، وحسب، بل من شأنهما أن يضعا إسرائيل على حافتها، حافة «الحرب بين المعارك»، ليس بالضرورة أن يكون ما يلي منها الحرب إسرائيليّ المبادرة، كما كانت الحال في ما سبقها.