يعيش الرئيس المكلَّف سعد الحريري ارتباكاً حقيقياً، للمرة الأولى بهذا الحجم منذ التسوية الرئاسية. والارتباك على مستويين: إقليمي بعدما أضاع البوصلة، ولم يعد مدركاً تماماً لحقيقة المتغيرات التي أصابت المنطقة، في ضوء الحركة الأميركية الأخيرة المضادة التي وصلت شظاياها إلى لبنان. وليس تفصيلاً ألّا يكون رئيس الحكومة المكلف على بيّنة من التناقضات في النظرة الحقيقية إلى ما يجري في الإقليم، بين السعودية وواشنطن وروسيا، وما يُرسَم لمستقبل ايران ومعها طبعا حزب الله. فحين تهبّ رياح الحرب، تذهب القراءة الحريرية إلى مربع الانتظار لجلاء غبار المعركة الآتية. وحين تتجه الأوضاع لاحقاً إلى ارتفاع مستوى التوتر في انتظار جولة جيدة من الكباش الأميركي - الإيراني، تتسارع وتيرة الاتصالات من أجل قطف ثمار داخلية في الوقت الضائع.الارتباك الثاني هو مستقبل التسوية الرئاسية، في ضوء تغير موقع حليفين أساسيين للحريري، هما الرئيس نبيه بري ورئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، الأمر الذي وضع إشارات سلبية حول مفهوم التسوية ومستقبلها. فالحريري الآتي إلى حكومة العهد الثانية، لا يؤلف حكومة وفق قواعد اللعبة ذاتها التي اعتُمدت عام 2016، ولا وفق ما أنتجته التسوية الرئاسية التي جاءت به رئيساً للحكومة وأتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
حين أراد الحريري تأليف حكومته الأولى، خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ليقول إن المكلَّف مفاوضات التشكيل هو الرئيس نبيه بري. فاوض بري، أخرج حلولاً ووفى بوعود، وعطّل تسويات فردية، وأدى قسطه في إنجاز حكومة العهد الأولى، رغم أنه كان أشدّ المعارضين للتسوية الرئاسية وصوّت ضد رئيسها. ساهم بري في تخفيف الشروط والشروط المضادة، مسهِّلاً عمل الحكومة الأولى، وظل يمسك خيوط اللعبة من دون منازع.
وفي مفاوضات التأليف أيضاً، لم تواجه القوات اللبنانية، أحد أركان التسوية الأساسية من خلال اتفاق معراب، أي مواجهة دراماتيكية، فدخلت بحصّة وازنة، من دون عوائق، ووقفت إلى جانب الحريري، بعد علاقة شابتها توترات من حين إلى آخر. لكنها ظلت تسانده في المفاصل الأساسية عند أي خلاف حاد مع المكونات السياسية الأخرى.
اليوم تختلف معادلة الحريري. إذ لا يمكن توصيف علاقته بالقوات توصيفاً واضحاً. هي علاقة ملتبسة جراء غموض الرؤية لدى الحريري. فهو في لقائه مع الوزير جبران باسيل يكون أقرب إلى تبني شروط الأخير وملتزماً كل شروط التسوية الرئاسية، وحين يلتقي القوات، يكون أقرب إلى خطابها وتبنيه لشروطها، نافياً خضوعه لمتوجبات باسيل وخريطة طريقه المتغيرة طوال الأشهر الماضية. من الصعب وصف هذه العلاقة. لا هي علاقة حلفاء بالمطلق كما كانت الحال في مرحلة عام 2005، ولا هي علاقة خصوم كمرحلة الجفاء المعروفة. قد يضع البعض من عارفي الحريري وسمير جعجع، السعودية كحلقة أساسية تُبقي خيط الود بينهما. لكن الرجلين باتا يعيان اليوم أن كثرة الارتباكات في النصف الثاني من ولاية عون، تجمع بينهما أكثر مما تفرق. والحريري يدرك أكثر أنه هو الذي يتلقى تبعات انفراط ورقة معراب، لأن انهيارها أول مدماك في انهيار التسوية بمفهومها الشامل.
أصبح الحريري أسير تسوية جديدة لا رأي له فيها، ستظلّل حكومته المقبلة


فالقوات فاوضت في نقاشات تأليف حكومة الحريري الثانية بشق الأنفس، وما حققته من نتائج باتت تراها «من حقها» لم يكن سهلاً انتزاعها من باسيل، الذي وإن حيّا إعلان النيات في ذكراه الأخيرة، إلا أنه تملّص منه على الورق. وهذا جوهر التسوية التي بدأت تفقد معناها. لأن حكومة العهد الثانية، ليست حكومة التسوية الرئاسية، ولا حكومة الحريري بالمعنى الحقيقي. فالتسوية الرئاسية الرباعية صارت خماسية بعدما انضم إليها باسيل إلى جانب عون. لكن محاولة إخراج القوات من هذه التسوية، قائمة من خلال تفرُّد باسيل بإدارة الشأن الحكومي، مفاوضات وحقائب وإعداداً. وهذا ما يرتدّ على الحريري. لأن أي حكومة جديدة لباسيل فيها موقع المقرر، تعني أن شروط تسوية جديدة تفرض نفسها عليه كرئيس حكومة.
وارتباكه يصبح أشد، حين يكون حليفه التقليدي الرئيس نبيه بري خارج الصورة. فلأول مرة منذ أن أصبح شريكاً فاعلاً في مجلس النواب والحكومات المتتالية، يخوض حزب الله مفاوضات تأليف الحكومة، فلا يوكلها إلى بري. مرات عدة قال نصرالله كلاماً في عدد الوزراء وفي توزيع الحقائب وحق الأقليات والحصص والعقد وحصة سُنّة 8 آذار. عادة كانت هذه مهمة بري في كواليسه ولقاءاته ومفاوضاته، ولم تكن مهمة حزب الله، الذي واكب علانية إلى جانب باسيل عملية التأليف بكل وضوح. وهذا الدور لم يكن موجهاً ضد بري، بل كان دوراً تصاعدياً في فرض إيقاع مختلف لموقع حزب الله في المعادلة الداخلية وفي التسوية الجديدة التي ستأتي بالحريري مرة ثانية إلى السرايا الحكومية.
يشكل الحريري حكومة يشارك فيها بري والقوات، في موازاة موقع باسيل المغطى من رئيس الجمهورية، وموقع حزب الله الذي فرض إيقاعه على الحريري. ويمسك الحزب وباسيل الحريري من اليد التي توجعه، لأنهما يدركان ارتباكه الإقليمي والداخلي في السياسة والمال والاقتصاد والموقع الجماهيري. ومشكلة الحريري أنه بات أسير تعثره المستمر وعدم حسمه في مفاصل كثيرة. لا علاقته مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط - الذي يتشدد معه الحزب ولا يكسره بتاتاً - بقيت على ما هي عليه، ولا علاقته بببري وجعجع أيضاً. وهو ليس قادراً على لملمة حلفاء أهل البيت وخارجه وما خسره تدريجاً في السنوات الماضية، ما أفقده عنصر المبادرة طوال مفاوضات الحكومة، فأصبح أسير تسوية جديدة لا رأي له فيها، ستظلّل حكومته المقبلة تحت رئاسته.