بعدما خمدت «الأقلام الإلكترونية» وخفتت الأصوات التي تناولت مسابقة اللغة العربية وانهالت على أستاذ المادة د. فريد عثمان وعلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الفرع الأول وعلى الجامعة اللبنانية، أود أن أوضح بعض النقاط، بما أنني أستاذة في الأدب الفرنسي، مع أنني على يقين بأن من تناولوا النصّ وعلقوا عليه لن يقرأوا ردّي هذا. فمشكلة المواقع الالكترونية أنها، وبسبب السرعة في تعاطيها مع الموضوع، تتصرف بانفعالية، لتعود ويغيب عنها ما سبق أن ذكر فيه.اقترف الناشطون أخطاء عدة، سأسرد بعضها:
• اعتقدوا أولاً أن عنوان النص هو «المرأة والمدينة» بينما هو «المرأة والمدنية»، وكان العنوان وحده كفيلاً بأن يوضح وجهة نظرهم المغالطة.
• اعتبروا أن كاتب النص هو أستاذ المادة ونسبوا له أفكاراً هي في الواقع لجبران خليل جبران.
• اجتزأوا النص واتهموا الكاتب بتحقير المرأة بينما وصف جبران وضعها في تلك الحقبة الزمنية ما قبل 1912. أتفهم صراحة موقفهم لو أن النص توقف عند الجملتين اللتين تم تصويرهما، ولكن للجملتين تتمة لم يقرأوها كما لو قرأ احدهم في القرآن الكريم: لا تقربوا الصلاة...
• حين أدرك الناشطون أن جبران هو الكاتب، أصيبوا بالصدمة، تراجع بعضهم فثمة خطأ ما لأن جبران معروف بدعمه للمرأة ولحقوقها، وظل البعض الآخر يواصل «انتفاضته» ضد الظلم.
ليس النص الأدبي كسائر النصوص العلمية أو حتى الصحافية. حتى دور النشر تتوخى الحذر في ترجمة الكتب الأدبية. فالكتابة الأدبية تحاكي المعاني من خلال الصور الشعرية والتورية والرموز والخلفيات، لذلك نقوم بتدريس التحليل النصي لكي نستنبط المعاني والمغزى، وهي ليست بالقراءة السطحية، ولكن بالغوص في معانيها، كما أننا لا نعلّم الطالب تقييم النص، ولكن نعلّمه النقد البناء له من خلال دراسة اللغة والأفكار والأسلوب والسرد بتجرد وموضوعية، كلها لكي توصلنا إلى ما أراد الكاتب، وأحيانا إلى ما أراد إخفاءه.
يحق للكاتب ما لا يحق لغيره، فأفكاره له، غير عابئ بما يقوله الغير عنه، كلمته حرة وموقفه يتحمله وحده ولا يحمله لأحد. يقوم الكاتب بوصف واقعه ومعاناته ومعاناة مجتمعه، فهو الذي ينظر وجهة نظره (prisme) إلى واقعه، لا يساير ولا يراوغ، بل يكتب قناعاته ثم يرحل. تناول بالزاك وزولا وفولتير المرأة وأجحدوا بحقها كما تناول سارتر الذات الإلهية، وظلت نصوصهم تدرّس لما لها من قيمة أدبية ونقدية، فالكلمة لا تسجن في موقف يتغير مع تغير الأزمان والأجيال.
كما يحق للآخر نقده، ولكن ضمن أصول فكرية وأدبية ومع الأخذ بعين الاعتبار الظرف والمكان، كما لا بد من نقده من خلال قراءة كلية لموقفه مع ضرورة عدم الإنزلاق نحو الاستبداد الفكري.
أخيرا أريد أن أشكر كل الذين اتصلوا بي من أساتذة واعلاميين وطلاب طالبين مني أن أرسل لهم النص «الكامل» لكي يقرأوا ما ورد فيه والذي أثار حفيظة الرأي العام، وإنني اذ أؤكد انه بعد قراءته بتمعن، تبين لهم أن جبران أشاد في حبه للمرأة وفي رغبته لأن تكون معززة شامخة ذكية قوية.
لقد قامت الكلية بإعطاء درس للذين تسرعوا بالحكم عليها، وكل الشكر لجبران الذي حرّك مرة أخرى الراكد في مجتمعنا وأفكارنا.

*مديرة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الفرع الأول.