في 4 شباط الماضي وقّعت الشركة اليونانية التي لُزّمت إنشاء معمل «دير عمار 2»، اتفاقية مع شركة مملوكة من الشقيقين تيدي وريمون رحمة، ومن علاء الخواجة، من أجل نقل التزامها إلى عهدتهم بعد إجراء تعديلات على العقد من صيغة أشغال لمصلحة الدولة، إلى عقد BOT، أي إنشاء وتشغيل لمدة 20 سنة، ثم تحويل الملكية إلى الدولة. بمعنى آخر، جرت «خصخصة» هذا المعمل مقابل تراجع الشركة اليونانية عن دعوى التحكيم الدولي ضدّ لبنان وحصولها على مبلغ 50 مليون دولار سدّده الملتزمون الجدد الذين فازوا باستثمار مردوده الإجمالي نحو 14%. قبل 8 سنوات، افتُعل خلاف بين التيار الوطني الحر وحركة أمل، فتعطّل المشروع الذي كان مملوكاً من الدولة. ثم دخلت شركة خاصة، لتحصل على «امتياز» تشغيل المعمل لمدة 20 سنة، وبَيع الانتاج للدولة، فوافق الجميع على «الخصخصة» بلا عقبات. هل كان ثمة خيار آخر بعدما وصلت القضية إلى التحكيم الدولي وكان لبنان مهدداً بخسارة أكثر من 100 مليون دولار؟ تبدو القوى السياسية المعنية جاهزة دوماً لرمي هذا السؤال في وجه منتقديها. لكن الجواب بسيط: نعم، كان ثمة خيار، وهو حل أزمة الضريبة على القيمة المضافة التي عطّلت المشروع، وحرم مفتعلوها اللبنانيين 5 ساعات من الكهرباء يومياً!
كان مشروع إنشاء معمل إنتاج للكهرباء في منطقة دير عمار، والمسمّى «دير عمار-2 »، عبارة عن عقد أشغال لمصلحة الدولة فازت فيه شركة يونانية اسمها «J&P Avax» بموجب مناقصة عمومية لإنشاء معمل إنتاج كهرباء بقدرة 550 ميغاوات وبمبلغ 360.9 مليون يورو، إلا أنه تحوّل بقرار من مجلس الوزراء في 21 نيسان 2018 إلى عقد شراء طاقة طويل الأمد - يسمى PPA - لمصلحة شركة لبنانية، علماً بأنه ينصّ على تسليم المعمل للدولة اللبنانية بعد 20 سنة قابلة للتمديد 5 سنوات. بمعنى آخر، إن هذا التحويل للعقد ينطوي على عناصر «BOT» واضحة، أي إنشاء المعمل وتشغيله ثم تحويل ملكيته إلى الدولة اللبنانية. وسواء كان اسمها PPA أو BOT فإن هذه الصيغة من العقد ترتّب على الدولة منح امتياز للمتعهد لا يمكن إقراره إلا بموجب قانون في المجلس النيابي، استناداً إلى المادة 89 من الدستور التي تنصّ على أنه «لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون وإلى زمن محدود».
هكذا إذاً، انطلق قطار خصخصة معامل إنتاج الكهرباء. بدأت هذه الخصخصة بتسوية بين ثلاثة أطراف على عقد ينطوي على إشكاليات متعدّدة؛ من أبرزها ضريبة القيمة المضافة التي لم يعرف إذا ما كانت داخل السعر الذي فازت الشركة على أساسه أو خارجه، وعلى دعوى تحكيم من المتعهد ضدّ الدولة اللبناني يطالبها فيه بعطل وضرر عن تأخر الأشغال ابتداءً من تشرين الأول 2013 إلى اليوم.
التسوية بين الاطراف الثلاثة، أي الدولة اللبنانية، والشركة اليونانية الملتزمة، والشركة اللبنانية التي سترث الالتزام بصيغته التعاقدية الجديدة، انطلقت قبل أكثر من عشرة أشهر. بحسب المعلومات، توصّل المتعهد والشركة اللبنانية الوريثة إلى اتفاق في 4 شباط الماضي بعد اجتماع عقد في اليونان. هناك اتّفق على أن تتنازل الشركة الملتزمة عن أجزاء أساسية من العقد لمصلحة الشركة اللبنانية التي تأسست بمساهمة كل من الشقيقين تيدي وريمون رحمة بحصّة 37%، ورجل الأعمال الأردني (حامل الجنسية اللبنانية) علاء الخواجة بحصّة تبلغ 40%، والشركة اليونانية وغسان غندور بحصّة 23%. وفي المقابل، ستتراجع الشركة اليونانية عن دعوى التحكيم التي رفعتها ضدّ لبنان، وستتقاضى ثمناً للتنازل عن العقد ومطالباتها بالعطل والضرر قيمته 50 مليون دولار ويسدّده المساهمون رحمة وخواجة.
وبحسب صيغة المشروع المتفق عليها بين الطرفين، فإن المعامل ستبدأ بالإنتاج بعد 18 شهراً من بدء البناء، وستنتج نحو 500 ميغاوات، على أن يكون سعر الطاقة المبيعة للدولة اللبنانية ضمن حدّ أعلى بقيمة 2.95 سنتاً للكيلوات ساعة الواحد (عدا عن سعر الوقود). ويرجح أن ينخفض هذا السعر إلى 2.15 سنتاً بعد احتساب انتاج وحدات الإنتاج العاملة بواسطة البخار في المرحلة الثانية من تنفيذ المشروع.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن نسبة الربحية للمستثمرين الجدد، رغم السعر المنخفض نسبياً ورغم تسديد مبلغ 50 مليون دولار للشركة اليونانية، لا يزال مرتفعاً، إذ إن الشركة ستستعيد كلفة رأس المال خلال خمس سنوات، وستتمكن من تحقيق عائد إجمالي على الاستثمار بمعدل 14%.
على ما يبدو، إن الاتفاق لم تتبلّغ به الدولة اللبنانية بعد، إذ إنه بحسب بيان صدر يوم الجمعة الماضي عن وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني، فإن الوزارة لا تزال تنتظر «استكمال المفاوضات مع الشركة المعنية، وسيتم رفع نتائج المفاوضات وفق صيغة عقد عند انجازه إلى مجلس الوزراء للاطلاع عليها وإعطاء القرار المناسب وفق ما درجت على القيام به في كل ما خص مشاريعها».
بيان البستاني أوحى بأن الأمور غير منجزة بعد، وذهب في اتجاه تبرير عملية الخصخصة التي أقرّت في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء السابق. تقول الوزيرة إن هذا القرار «فرضته مقتضيات المصلحة العامة والجدوى الاقتصادية الفضلى».
يفترض بهذا السعر الذي جدّده مجلس الوزراء لكلفة شراء الطاقة من المتعهد الجديد، أن يؤثر على كلفة عقد تحويل الطاقة الموقع مع شركة «كارادينيز» التركية لتغطية المرحلة الانتقالية من خطّة تطوير قطاع الكهرباء من خلال مولدات عائمة. وإذا كان التفاوض لا يزال قائماً مع الشركة التركية المتخصصة بالمولدات العائمة (البواخر)، فإن الأوساط المطلعة تقول إن الشركة مستعدة لخفض سعرها الحالي (4.95 سنت عن كل كيلوات، عدا عن سعر الوقود)، شرط تأمين «الحماية لها من طالبي العمولات في كل مراحل العمل، وأن تضمن الدولة اللبنانية صرف مستحقاتها في المواعيد المحددة بحسب الاتفاق». وتردد أن الشركة التركية مستعدة لخفض الكلفة نحو 15% على الأقل.
اتفاقات منجزة وتمويل غربي

اتفق الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري، عند تأليف الحكومة الجديدة، على نقطة جوهرية وهي أنهما يريدان الوصول إلى برنامج عمل مضمون الآليات والنتائج، لتحقيق قفزة في ملف الكهرباء. ويبدو أن الحديث العام انتقل إلى خطوات تفصيلية. ويتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة سلسلة خطوات تفتح الباب أمام اتفاقات على عقود وصفقات بين القطاعين العام والخاص لبناء معامل لإنتاج أكثر من 60% من حاجة لبنان الحالية للطاقة. وقد جرى تسريع هذه الخطوات فيما أبلغت إيران وحزب الله، بصورة رسمية، الاعتذار عن عدم قبول عرض الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بالحصول على دعم إيراني لإنتاج الطاقة. وكان المبرر الوحيد أن لبنان يخشى تعرضه لعقوبات قاسية من الولايات المتحدة، وهو لن يغامر بهذا الأمر.
البرنامج العملي السائد، اليوم، هو السير باتفاقية تشغيل معمل دير عمار للطاقة المنتجة على الفيول ثم على البخار، والسير في مشروع إنتاج الطاقة من خلال الرياح، والعمل على إعداد مشروع في الزهراني على شاكلة دير عمار. فقد بدأ العمل على إنشاء معامل لإنتاج الطاقة على الرياح بواسطة ثلاث شركات استأجرت العقارات اللازمة لها في منطقة عكار، وهي شركات يملك علاء الخواجة اثنتين منها، ويملك الثالثة رجل الأعمال ألبير خوري. وستنتج هذه المعامل نحو 200 ميغاوات.
وبحسب المعطيات فإن العمل في هذه المشاريع في حال سار تحت رقابة مشددة من وزارة الطاقة، ومن دون أي نوع من المحاباة السياسية أو غير السياسية، سيتيح المجال لتوفير مبالغ إضافية من فاتورة المشتقات النفطية التي تحتاج إليها الدولة لتشغيل المعامل.
وثمة حديث عن برنامج تعاون مع شركة «روسنفط» الروسية التي فازت بعقد تشغيل المنشآت النفطية لمدّ الدولة، بكل مؤسّساتها، بما في ذلك قطاع الكهرباء، بحاجتها من الفيول وبأسعار تقل عن الأسعار الحالية.
الشركة اليونانية تنازلت عن الدعوى والعقد لمستثمرين جدد سدّدوا لها 50 مليون دولار


على أن الجانب الآخر من الملف يتصل بتمويل هذه العمليات. ويجري الحديث عن أن الشركات العامة لن تلجأ إلى الاقتراض من الأسواق المحلية، بل ستلجأ إلى أسواق عالمية توفر لها حاجتها من الأموال مقابل فوائد مخفضة أو مدعومة، وأن البحث جار مع مؤسسات عالمية لدعم هذه العملية. ويقول رئيس الحكومة في مجالسه إن هذه العمليات ستتيح وصول أموال إضافية إلى لبنان، كما ستخفف أعباء العجز الناجم عن كلفة إنتاج الطاقة الكهربائية.
وقال مصرفي بارز لـ«الأخبار» إن اللافت في سلوك مؤسسات مالية عالمية، ومنها مؤسسات أميركية، ما يخالف التوجهات السياسية الحادة تجاه لبنان. ويعتقد المصرفي أن «الغزو» الروسي لقطاع النفط والغاز في لبنان والعروض الإيرانية في مجال الطاقة، دفعا هذه المؤسسات إلى التخلي عن شروط كثيرة، وإلى إبلاغ الجهات المعنية في لبنان استعدادها للدخول في عمليات تمويل بفوائد منخفضة جداً عن فوائد لبنان. ويجري الحديث عن نحو 600 مليون دولار سيتم الحصول عليها كقروض لسد حاجة معمل دير عمار ومعامل الطاقة على الرياح.

8 سنوات تمهّد لخصخصة إنتاج الكهرباء

قبل نحو ثماني سنوات، لُزّم إنشاء معمل «دير عمار 2». مشروع استقطب تجاذبات سياسية واسعة عطّلت المشروع وحرمت اللبنانيين من خفض ساعات التقنين بأكثر من أربع ساعات يومياً. التجاذبات كانت تقنية ناجمة عن جهل في إعداد دفاتر الشروط، وقصور الوزراء في التدقيق بالملفات، ثم تحوّلت إلى تجاذبات سياسية على هامش هذا العقد، ما خلق مفاوضات بين أطراف سياسيين عديدين حول تحاصص عقود الكهرباء وإنشاء المعامل في مختلف المناطق. كلّها عناصر مهّدت لبدء عملية الخصخصة.
هذه القصة بدأت في نهاية 2011 حين أقرّ مجلس الوزراء إطلاق مناقصة مشروع إنشاء معمل لإنتاج 550 ميغاوات في دير عمار بموازاة البحث عن تمويل بقروض ميسّرة. فازت شركة «J&P Avax» اليونانية في نهاية عام 2012. مجلس الوزراء وافق على نتائج المناقصة في 12 آذار 2013، ثم باشرت الشركة العمل في 14 تشرين الأول 2013. ومع بدء تقديم الشركة الملتزمة فواتيرها، ظهرت مشكلة ضريبة القيمة المضافة. العقد مع الشركة يخلو من الإشارة المباشرة والصريحة إلى ضريبة القيمة المضافة، فهل يشمل السعر هذه الضريبة، أم أنها تضاف على السعر المعروض، وبالتالي يجب على الخزينة تسديد مبالغ إضافية قيمتها 36 مليون يورو (ما يوازي في حينه نحو 49.3 مليون دولار)؟
الشركة اليونانية ادّعت أن السعر المعروض لا يشمل الضريبة، وأيّدتها وزارة الطاقة. ديوان المحاسبة أصدر قراراً رقمه 652 وقضى «بالموافقة على الصفقة» مشيراً إلى أن «من الطبيعي عدم احتساب ضريبة القيمة المضافة ريثما يتقرّر مصدر التمويل نهائياً».
المديرية العامة للاستثمار في وزارة الطاقة رفضت إرسال أوامر الصرف إلى وزارة المال، بحجّة أن الفواتير لم تتضمن قيمة ضريبة الـ TVA. أيّدتها وزارة المال التي امتنعت عن صرف أي مبلغ. بات الخلاف علنياً بين التيار الوطني الحر من جهة، وحركة أمل من جهة أخرى. واتهم التيار «أمل» بافتعال أزمة الضريبة على القيمة المضافة لعرقلة مشروع دير عمار ومن خلفه خطة التيار لقطاع الكهرباء. ولم تنف أمل مسؤوليتها عن عرقلة «دير عمار 2»، مبررة ذلك بأنها «منعت سرقة نحو 50 مليون دولار»!
استمرّ السجال حتى صدور قرار ثان من ديوان المحاسبة يذكّر فيه برأيه الاستشاري السابق رقم 69 والذي ينصّ على أنه «في حال عدم إضافة ضريبة القيمة المضافة ورسوّ الالتزام على العارض فلا تصحّ الإضافة لاحقاً، ويعتبر السعر متضمناً كافة الأعباء بما فيها ضريبة القيمة المضافة».
في ذلك الوقت، كان المتعهد يواصل تقديم الفواتير من دون قبضها، إلى أن قرر توجيه إنذار للدولة مطالباً إياها بدفع المبالغ الواجبة عليها وبغرامات تأخير. فهو اشترى التوربينات اللازمة لإنشاء المعامل، إلا أنه لم يستطع إخراجها من مستودعات مرفأ بيروت بسبب هذا الجدال، ثم قرّر إعادتها إلى الشركة المصنّعة التي باعتها لمستثمر آخر يقال إنه كان يعمل على إنشاء معامل إنتاج كهرباء في مصر… وفي النهاية رفعت الشركة اليونانية دعوى تحكيم في المحاكم الدولية ضدّ الدولة اللبنانية.
سعر بيع الطاقة حدّه الأعلى 2.95 سنتاً للكيلوات ساعة ويرجح انخفاضه إلى 2.15 سنتاً


لاحقاً تقرّر التفاوض مع الشركة الملتزمة لإجراء مصالحة. تكرّرت المحاولات من دون نجاح، وسط تجاذبات سياسية حادّة ترسو يوماً على قضية معمل دير عمار وترسو حيناً على صفقة توسيع عقود شراء الطاقة من المعامل العائمة، أي البواخر. وفي 21 أيار 2018 قرّر مجلس الوزراء تحويل العقد الموقع مع الشركة اليونانية من عقد تعهدات EPC، أي عقد إنشاء المعمل لمصلحة الدولة اللبنانية، إلى عقد PPA، أي «عقد شراء طاقة طويل الأمد (20 سنة قابلة للتجديد 5 سنوات) تعود بعده المنشآت إلى الدولة اللبنانية، وذلك بواسطة شركة لبنانية… شرط أن تتنازل شركة «J&P Avax» عن دعوى التحكيم أمام المراكز الدولية لتسوية النزاعات المتعلقة بالاستثمارات، وعلى أن يعتمد سعر 2.95 سنتاً/ للكيلوات ساعة، على كل أنواع المحروقات». يومها، طلب مجلس الوزراء من وزارة الطاقة والمياه «اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوقيع العقد، بما فيها الاستعانة بمكتب محاماة دولي وعرض العقد بصيغته النهائية على مجلس الوزراء»، إلا أن الأمين العام لمجلس الوزراء فؤاد فليفل تلاعب بقرار مجلس الوزراء وأجرى «تصحيحاً» عليه يلغي عبارة «وعرض العقد بصيغته النهائية على مجلس الوزراء» والقصد وراء التعديل واضح!
خلاصة المسيرة الطويلة أن القوى السياسية، وتحديداً حركة أمل والتيار الوطني الحر، اختلفت حول المشروع عندما كان على الشركة المتعهدة أن تبني معملاً لحساب الدولة. ولم يتفق الجميع على حل إلا عندما بات المشروع كناية عن خصخصة، يجري العمل على استنساخها في مشاريع أخرى، أبرزها معمل الزهراني.