عام 2001، عاد فيليب داغر من فرنسا. كانت عودة نهائية الى البلد الأم، بعد غربةٍ طويلة. الشاب الآتي من «عالم المال»، كان خياره الأوحد العمل في هذا «القطاع». إلى هنا، بدت الأمور وكأنها تسير بسلاسة، قبل أن يصطدم بما آلت إليه بيروت خلال غيابه. استحالت المدينة ما يشبه موقفاً كبيراً للسيارات «تتفرع» منه شوارع، مقفلة هي الأخرى، بسبب الإزدحام. هاله أن المسافة التي لا تتعدى كيلومتراً واحداً بين منزله ومقرّ عمله كانت تتطلّب ساعة لعبورها، ما صعّب عليه التكيّف. في بدايات العودة، عاش «متلازمة فرنسا»، فكان دائماً يقارن بين «هنا وهناك»: «هناك» كان يتنقل بدراجته الهوائية أو في وسائل النقل العام التي تصله بوجهته في وقت محدد. أما «هنا» فلا بدّ من استخدام سيارة خاصة لأن «طرقات المدينة لا تعير اهتماماً للإنسان، إذ أنها صُمّمت من أجل السيارات فقط».«بيروت مدينة غير قابلة للحياة. جرّدتني من طاقتي وأفقدتني بهجة العيش». لازمة لا ينفك داغر يردّدها عن المدينة التي صارت ملاذه، مذ صار يصل متأخراً إلى عمله، ويشكو من الإرهاق والتوتر بسبب الزحمة وهدر الوقت وفوات المواعيد - حاله كحال اللبنانيين عموماً. لذا قرّر استعادة تجربة الـ«هناك»: اتخذ قراره باستخدام الدراجة الهوائية وسيلة تنقل في بيروت. لم يصغ لتحذيرات الأصدقاء من طرقات غير مهيأة ومن ناس «يطحشون ولا يصبرون». يدرك أن «لبنان ليس فرنسا... لكن لنجرّب». ارتدى زيّه الرسمي وركب دراجته الهوائية ومضى إلى عمله كما اعتاد أن يفعل «هناك»، في أوروبا. في البداية، استهجن كثيرون المشهد غير المألوف. فـ«أن تقود بيسكليت بزيّ رسمي مع كرافات أمر مستغرب. كان شرطي السير يصيح بي قائلاً: والزّغر، لأن الناس تربط البيسكليت بألعاب الصغار». لكن، «لم أهتم ما دمت أصل إلى عملي في بضع دقائق يرافقني شعور بالراحة والحيوية».
شرطي السير «صار الوحيد اللي بيفهمني» بعدما بات تنظيم السير مستحيلاً


17 سنة مرّت على القرار. طوفان السيارات مستمر في إغراق المدينة، فيما شرطي السير «صار الوحيد اللي بيفهمني»، بعدما بات تنظيم السير مستحيلاً. فيما «مدينة صغيرة مثل بيروت يفترض أن يكون التنقل فيها يسيراً لأن معدل المشوار فيها لا يتخطى الكيلومترين». مع وجود مئات آلاف السيارات «من الطبيعي أن يصبح الوضع كارثياً». ومع غياب وسائل النقل العام «يغدو الهمّ الأساسي للبناني لدى استحصاله على وظيفة هو شراء سيارة. والأسوأ أن استخدامها يصبح آلياً حتى لاجتياز أمتار قليلة».
يؤكد داغر انه لم يأت بجديد. التنقل بـ«البيسكليت» بات مطبقاً في كبريات مدن العالم. مدينة مدينة مكسيكو، مثلاً، يقطنها أكثر من 20 مليون نسمة و«لنا أن نتخيّل حجم التوحش الذي سيأكل المدينة إذا كانت ساكن لكل سيارة ووجهة يريد أن يصلها بأسرع ما يمكن». خلال 20 عاماً، هيّأت سلطات المدينة طرقاتٍ أعطت الأولوية للدراجات الهوائية ولركابها وفرضت قوانين صارمة وحوافز دفعت كثيرين الى التخلي عن سياراتهم. يجزم داغر أنه، عاجلاً أم آجلاً، «ستلتحق بالركب كل مدن العالم. مستقبلاً لن تكون هناك وسيلة للتنقل في المدن سوى المركبات العامة والبيسكليت... أو المشي». وفي لبنان، «حتى لو لم نقم بأي خطوة في هذا الاتجاه سنجبر على الالتزام به خلال أقل من 20 سنة. لا حلّ للمدن عندما تزدحم إلا بوسيلة تنقل سهلة ونظيفة ومستدامة لا تأخذ حيزاً ولا تسبب تلوثاً».
اليوم، ينشط داغر مع منظمات غير حكومية لتعميم ثقافة الدراجة الهوائية وتقليص مدّة العشرين عاماً إلى سبعة. هذا التحدي دفعه، قبل عامين، إلى ترك عمله في القطاع المالي وتكريس وقته لتحويل بيروت مدينة صديقة للبيئة، حتى نال لقاء لقب «عمدة مدينة بيروت للدراجات الهوائية» من منظمة BYCS الهولندية التي تطمح الى أن تشكل رحلات الدراجات الهوائية ما نسبته 50% من مجمل الرحلات في المدن بحلول العام 2030.
مؤخراً، قدّم داغر الى رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء خرائط طرقات جديدة لاستيعاب الدراجات الهوائية. يقول «لا زلنا في البداية لكننا نسير في الاتجاه الصحيح حتى تكون بيروت على الخط نفسه مع المدن العالمية نحو بيئة أقل تلوثاً وازدحاماً».
اليوم، توجد في بيروت 5000 دراجة هوائية، يقول داغر، لكن بالمقارنة مع مئات آلاف السيارات، لن يلحظها أحد. «في الحد الأدنى يجب أن نبلغ رقم 200 ألف دراجة». والمطلوب «أن نبدأ سريعاً باستخدامها لأننا إذا انتظرنا الطرقات الخاصة، وهذا ما لن يحصل بسرعة، سنتأخر كثيراً».