يختلف مشهد لقاء وليد جنبلاط وداني شمعون شتاء عام 1989 في دير القمر، عن اللقاء الأخير الذي جمع جنبلاط بالتيار الوطني ورئيسه الوزير جبران باسيل في إطار حلقة جديدة من مسلسل المصالحات الذي لم تنتهِ فصوله بعد. عام 1989 صعد شمعون إلى دير القمر، التي كانت لا تزال تحت وقع صدمة تهجير الجبل واستقبالها مئات المسيحيين المهجرين وتسهيل إقامتهم فيها قبل نزولهم إلى ما كان يعرف ببيروت الشرقية آنذاك. في ذلك اللقاء الحدث آنذاك، حاول شمعون وجنبلاط كسر المحظور وإعادة جمع ما فرقته الحرب والتهجير والتدخلات العسكرية والسياسية في المنطقة. إضافة إلى إعادة إحياء ما كان قائماً بين العائلتين، وبين الرئيس كميل شمعون وحليفه اللدود كمال جنبلاط، فجمعت الدير في لقاء استثنائي أركان جنبلاط والطائفة الدرزية وأبناء الدير والمقربين من شمعون، الذين ضاق بهم منزل عائلة نعمة حيث عقد اللقاء.قبل أسبوع جرت محاولة استنساخ مصالحة ما، لا تزال الغاية منها غير مفهومة، بدليل أنه لم تمضِ أيام عليها، حتى انقلب الطرفان على مواقفهما. والأسوأ أنها أدخلت دير القمر في سجال سياسي، كانت في غنى عنه، وهي التي لم تقدر عليها الحرب.
لم ولن يسكت التيار عن جنبلاط، ولن يتوقف جنبلاط عن انتقاد أداء التيار. وخطأ الطرفين، أنهما استخدما الجبل مرة أخرى ساحة صراع سياسي وكأنهما عن قصد أو غير قصد يصرّان على إحياء ذكرى الحرب التي تجعل من محازبيهما مستنفَرين عصبياً وطائفياً، من دون الكلام عن الأسباب الفعلية لعدم العودة. فما قيل من جانب التيار يتعدى إطار المصالحة المنشودة، لأنه يتصرف من موقع القوة الفائضة سياسياً وسلطوياً. ورئيسه، الوزير جبران باسيل، اعتبر بعد الانتخابات النيابية أنه حقق اختراقاً في الشوف وعاليه. ومن موقعه كحزب العهد وكمرشح رئاسي مقبل، يرى أنه قادر على أن يكون في موقع الند لجنبلاط في الشوف وكسر احتكار زعامته السياسية، لا الدرزية وحسب. وما قاله جنبلاط بعد المصالحة، يعبّر عن هذا الاستياء من فائض القوة هذا، ويعكس أيضاً في مكان ما القلق الجنبلاطي من المستقبل ورغبته في فكّ التطويق الدائم له بعد فورة العهد السياسية. يذهب جنبلاط إلى «المصالحة المصطنعة» مع التيار، بعدما تصالح مع غيره من القوى السياسية ومع الكنيسة، فاتحاً بذلك كل الاحتمالات السياسية أمامه، ليس بشأن الجبل، بل بشأن الواقع السياسي برمته. وهو يظهر بعدما تعمد إرسال رسائل مباشرة إلى التيار بعد المصالحة، وكأنه أضاع البوصلة المحلية، فهو يقدم على خطوة ثم يبتدع مخارج لها.
ليس سراً أن لا ودّ يجمع وليد جنبلاط بالتيار الوطني الحر. لكن قضية الجبل ليست قضية ودّ، ولا تتعلق بمدى انسجام شخصيتين سياستين. وليس المطلوب أن تتكرر ثنائية كميل شمعون وكمال جنبلاط في الجبل. فالمصالحة الأخيرة غير مفهومة، لا أسباباً ولا وقائع. وما جرى بعدها وحوّلها من سجالات سياسية وإعلامية، من شأنه أن ينعكس سلباً على الشريحة السكانية لدى الطرفين. لأن السبب الحقيقي هو اختلاف سياسي بالعمق في الرؤية وفي الدور لكليهما منذ سنوات طويلة، وليس ابن ساعته، ولا يتعلق بما حصل في الجبل في الثمانينيات. صحيح أن حجم ما حصل كبير وكبير جداً، لكن الصحيح أيضاً أن محطات دامية مشابهة حصلت في أكثر من منطقة وبين أطراف حزبية مختلفة على تنوعها السياسي والطائفي. لكن لا تُنبَش هذه المحطات عند كل مأزق سياسي، كما لا يفترض بجنبلاط وبالقوات اللبنانية مثلاً أن يقدما وحدهما اعتذارات عمّا جرى سابقاً، وأن يطلب منهما تكرار الاعتذارات، ولا يطلب من غيرهما ذلك، بما في ذلك التيار الوطني الحر. لا يمكن وفق ذلك الكلام عن روزنامة مصالحات تتكرر كل سنتين، مع كل طرف سياسي يتسلم دفة الحكم، ويريد فرض إيقاعه على الأحزاب السياسية، بفعل سلطته الحالية. فالمصالحة التي حصلت على دفعات، مع الأحزاب المعنية بالحرب ومع من شاركوا فعليا فيها، وختمها البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير عام 2000، وضعت خواتيم لجراح كثيرة، وساهمت علاقة جنبلاط والأحزاب المسيحية التي شاركت في الحرب، في طيّ هذه الصفحة.
يقول التيار إنه لم يشارك في الحرب، ويقول جنبلاط إن الحرب كانت مع العماد ميشال عون. وبين الطرفين، يتحول تعويم أجواء الحرب عند احتدام أي نقاش سياسي، إلى فتح متكرر لجروح الحرب، ما إن ينتهي احتفال المصالحة. ويتجاهل الجميع أن «اللاعودة» إلى الجبل لا علاقة لها بالحرب وحدها.
لا تزال أهداف المصالحة الأخيرة غير واضحة بعد مصالحات جنبلاط المتكررة


في إحدى بلدات الشوف، يشرف أحد العمال السوريين على زراعة أراضي البلدة المسيحية، الخالية من سكانها إلا قلة منهم يقيمون فيها صيفاً وشتاءً. يستصلح الرجل الأراضي، ويسكن في أحد بيوتها، ويشرف على معالجة شؤونها وتدبير تصريف منتجاتها. في تلك البلدة، لا يخاف المسيحيون العائدون إليها منذ أن تقاضوا أموالاً من صندوق المهجرين وأعادوا إعمار نصف بيوتهم ونصف كنيستهم، من الدروز الذي يسكنون المنطقة، بسبب ما أحدثته الحرب، بخلاف ما قال وزير المهجرين غسان عطالله. قد تكون آثار الحرب قد ظلت حية، في مرحلة التسعينيات وما بعدها، وجعلت البعض منهم، كما في بلدات أخرى، يحاذرون العودة إلى قراهم. لكن هذه البلدة، كما مثيلات لها، لم تعرف العودة الحقيقية لأسباب كثيرة، اجتماعية وأمنية واقتصادية وسياسية، ولا تنحصر في الاعتذار والمغفرة والتوبة. وفراغ القرى المسيحية من أبنائها، يشبه الفراغ المماثل الذي تعيشه وأحياناً بحدة فاقعة أكثر، بلدات مسيحية صرف في جرود أقضية جبل لبنان والشمال وقرى الجنوب حيث لا حرب دمرت، ولا تهجير حصل. ثمة وقائع اجتماعية واقتصادية وإنسانية تتشابه في كل القرى الجبلية، حيث تكثر الهجرة وتفرغ البيوت من سكانها، وحيث لا مستشفيات ولا مدارس ولا بنى تحتية ولا مقومات للعيش اليومي، وحيث لا يدفن أي كهل إلا بعد أيام من انتظار عودة أولاده من المهجر. المبالغة في تحميل فراغ الجبل واللاعودة إلى فريق ما، مبالغ فيه لأسباب سياسية. لأن أهون الشرور التهرب من مسؤولية الإعمار وبناء المؤسسات الحياتية، بدلاً من همروجة بناء الكنائس عشوائياً، وإلقاء المسؤولية على طرف سياسي لتصفية حسابات آنية.
أحد نواب الشوف السابقين كان يكرر أنه جهد لتحصيل مساعدات من صندوق المهجرين لجميع بلدته، لكنهم بدلاً من بناء منازل لهم، اشتروا بالأموال سيارات وبقيت أعمدة الباطون ترتفع في البلدة.