من زار دمشق في الآونة الاخيرة يدرك تماماً تفاقم الأوضاع الاقتصادية التي تترك آثارها السلبية على الواقع المعيشي، ومن يراقب تطوراتها السياسية والعسكرية، يعرف أن سوريا اليوم رغم هدوء المعارك في شكلها الواسع والعريض، وانسحاب عناصر «تنظيم الدولة الإسلامية» لا تعيش على إيقاع مستقبل موعود بالازدهار القريب.كان يمكن وقفَ المعارك وانتهاءَ داعش، أن يجعلا من سوريا اليوم على طريق الخروج من أزماتها الطويلة، وسنوات الحرب الثمانية. لكن ما حصل هو العكس. فالمراوحة التي تعيشها أخطر وأهم من أي تطور إيجابي أو سلبي. لأنها دخلت في نفق الانتظار الذي سبق أن دخله لبنان لفترات طويلة خلال سنوات الحرب، مع دخول عامل أساسي ومختلف عن لبنان، يتعلق بوجود دولتين أجنبيتين بموافقة رسمية على أرضها، هما إيران ومعها حزب الله، وروسيا، وتضارب مصالحهما؛ فضلاً عن الوجود العسكري الأميركي ومعه الفرنسي والبريطاني، والوجود التركي، والاحتلال الإسرائيلي للجولان. خطورة ما تمرّ به سوريا في الوقت الراهن، أنها في اللحظة التي كانت تستعد فيها لمرحلة الإعمار، وقد بدأ النظام يرفع صوته ليفرض شروطاً على هوية شركات الإعمار وأصحابها، ظهر الخلاف الروسي الإيراني، وبدأت تتسرب انباء التجاذب بينهما على تقاسم المصالح الاستراتيجية على الأرض السورية، في وقت تتجه فيه موسكو أكثر فأكثر إلى إظهار علاقاتها الجدية مع إسرائيل. وبين محاولات طرح تسويات سياسية على بساط البحث، تتحول سوريا أسيرة الستاتيكو العسكري والسياسي، والتجاذب الإقليمي والدولي حولها من تركيا والعراق ودول أوروبا، إلى واشنطن التي رفعت مستوى شروطها حول مصير نظامها وفرض عقوبات لمنع إعمارها سريعاً، فيما تنصرف إلى الإعداد لصفقة القرن. ليضاف إلى ذلك الحصار الاقتصادي، الذي تحدث عنه الرئيس السوري بشار الأسد مراراً في الآونة الأخيرة، والأزمة المعيشية والمرجحة للتفاقم، مع دخول عناصر جديدة في إطار حملة الضغوط الدولية، ليس أقلها قرار الأردن حظر استيراد أكثر من 150 صنفاً من المنتجات السورية، رغم تبريرات عمان المتعلقة بمبدأ المعالمة بالمثل، لحجب سوريا بضائع أردنية.
على إيقاع الاقتصاد السوري المترهل، كان لبنان يأمل قبل أشهر، في استعجال متسرع لدى بعض القوى الأساسية، أن ترتد عليه الاندفاعة العربية والأوروبية لإعمار سوريا، فيكون منصة انطلاق لهذه الحملة، مستفيداً من الشركات الغربية، أو العربية، التي ستكون مقراً له لتنطلق أعمالها إلى سوريا، ودخول لبنان رسمياً وعبر شركات أو شخصيات، على خط الإعمار. وكذلك كان يعوّل على أن يتحول الإعمار دافعاً أساسياً للنازحين السوريين وعودتهم إلى بلادهم للعمل والمشاركة في نهضتها، ما يساهم تلقائياً في خفض أعدادهم فيه.
ما يحصل اليوم، أن أوضاع لبنان الاقتصادية انقلبت دفعة واحدة. أساساً، كان يعيش منذ ثماني سنوات على إيقاع الحرب السورية في قضايا الإرهاب والنازحين. لكن العبء الاقتصادي كان أشد وقعاً مع إقفال المعابر الحدودية التي كانت تصل لبنان بالدول العربية، وازدياد أعداد النازحين. وكان يأمل أن يؤدي تحسن وضع سوريا إلى استعادة لبعض من نشاطه الاقتصادي. لكن العكس حصل، فلا الإعمار الموعود حطّ رحاله في سوريا، ولا الشركات الغربية والعربية اندفعت في مغامرة اقتصادية، ما دامت واشنطن دخلت في مرحلة التحذير الجدي لدول أوروبا من مغبة المسارعة إلى ضخّ استثمارات في سوريا، وبدء الإدارة الأميركية حملة تصعيد العقوبات على إيران، ما ينعكس حتماً على وضعها في سوريا. لا بل إن الأزمة الاقتصادية السورية المتفاقمة تدريجاً، ارتدّت على لبنان حتى في الأمور اليومية اليومية بتنشيط حركة تهريب المحروقات وكثير من البضائع من لبنان إلى سوريا، ورفع الدعوات إلى تفعيل التصدير لسوريا من جانب حلفائها. وترافقت هذه الإحباطات مع انفجار المشكلات الاقتصادية والمعيشية في الرواتب والموازنة ومشكلات اجتماعية بالجملة، مع حملة مالية تتعلق بوضع الليرة، بعد أزمات النفايات والبيئة والكهرباء وتعثر تأليف الحكومة. هذا الوضع المرشح للتفاقم في ظل تعثّر إدارة الأزمة الاقتصادية، بتعدد رؤوسها، جعل لبنان أمام مشكلة لم يشهد لها مثيلاً حتى في أحلك سنوات الحرب. إذ لم يبق أمامه سوى النفط ليعوّل عليه، وهو ملف طويل الأمد لاستخراج نتائجه ومفعوله الإيجابي، فيما دخلت أميركا وإسرائيل على الخط، ووضع شروط محكمة حوله.
لا يملك لبنان من الإحاطة الاقتصادية الغربية سوى أمرين: النازحون وسيدر المعلق على الموافقة الأميركية والإصلاحات المنتظرة فرنسياً، ومساعدات واشنطن للجيش. والأموال المتدفقة من الجهتين، لا تنتج اقتصاداً مزدهراً ولا يضخان تفاؤلاً في الوسط الاجتماعي، لأن المساعدات تصبّ في خانات محددة ولدى قوى سياسية محددة، وليس لتحسين الوضع الاقتصادي الذي يزداد هشاشة. تقول إحدى الشخصيات السياسية البارزة إن لبنان يعيش حالياً في مثلث روسي - أميركي وصيني، في إطار التنافس على الاستثمار السياسي والاقتصادي في لبنان. لكن الواقع أن هذا المثلث ليس معزولاً عن انحسار الضخ الاقتصادي والمالي الخليجي، ومعه آثار القمة العربية الاقتصادية، وحتى الضخ الإيراني بفعل العقوبات الأميركية، وليس معزولاً عن سوريا التي تخضع للتجاذب ذاته، ما يجعل اقتصاد لبنان يرتبط بما يحصل عندها. لكن هذا الجانب لا يبرر للسلطة القائمة، وهي نفسها منذ سنوات، أنها أغفلت المشكلات المحلية وتركتها تتفاقم لأشهر طويلة، وتصبح جزءاً من المشكلة الاقتصادية العامة. فلا النفايات ولا الكهرباء ولا الرواتب ولا الفساد والهدر ملفات سورية أو أميركية أو إيرانية. لكن المشكلة أن كلام المسؤولين عن حلول لها في الأيام الأخيرة، بات يشبه الكلام عن حل لحرب سوريا وصفقة القرن والصراع العربي الإسرائيلي.