نهاية آذار الماضي، زار الرئيس ميشال عون روسيا، للمرة الأولى منذ انتخابه، والتقى الرئيس فلاديمير بوتين. اعتُبر الحدث إعلاناً غير رسمي لانطلاق «علاقةٍ استراتيجية» بين البلدين، على الصعيدين السياسي والنفطي. انتشر الخبر في وسائل الإعلام منذ بداية آذار، بالتزامن مع انطلاق الإجراءات البروتوكولية للتحضير لها. الإعلان في وسائل الإعلام، دفع عدداً من الدبلوماسيين العرب في موسكو إلى استيضاح البعثة اللبنانية بشأن تاريخ وصول عون إلى الدولة الاتحادية. لم يكن لدى البعثة من جواب تُقدّمه سوى أنّ «الموعد لم يُحدد بعد». هذا «التكتم» عن التاريخ المُحدّد لم يكن مقصوداً أو بسياق «التمويه»، بل لأنّ البعثة فعلياً لم تكن على علمٍ بشيء. وحتى بعد وصول عون إلى روسيا، لم تكن قد وصلت إلى البعثة أي برقية من وزارة الخارجية والمغتربين، تُطلع فيها السفير شوقي بو نصار على الأمر، وتُكلفه القيام بالشؤون الإدارية اللازمة. لم تجد «الخارجية» نفسها معنية بصيانة الأصول البروتوكولية للسلك الدبلوماسي. ولم تعلم السفارة رسمياً بالزيارة، إلا قبل أسبوعين من حصولها، بعد أن تواصل مدير المراسم والعلاقات العامة في القصر الجمهوري نبيل شديد مع بو نصار، لكون العديد من الترتيبات «تستوجب إرسال طلبات خطية إلى الخارجية الروسية»، بحسب المصادر.الفصل الثاني من التهميش للبعثة اللبنانية، استُكمل بعد وصول عون إلى موسكو. فقد كان شديد قد طلب من بو نصار إبلاغ المسؤولين الروس أنّ الوفد اللبناني الذي سيلتقي بوتين، سيضم ثلاثة أشخاص إضافة إلى الرئيس: وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، السفير شوقي بو نصار، والمستشارة الأولى لرئيس الجمهورية ميراي عون الهاشم. في الكرملين، وأثناء التحضير للمقابلة مع بوتين، طلب باسيل «من مراسم رئاسة الجمهورية اللبنانية، أن يقتصر الوفد على الرئيس ومستشارته ووزير الخارجية»، وهكذا حصل. السفير انتظر في غرفةٍ جانبية إلى حين انتهاء القمة الرئاسية.
تُعلّق مصادر دبلوماسية على هذه الحادثة بالقول إنّ «هذه التصرفات تؤثر بعلاقة السفير في الدولة مع المسؤولين فيه، وبدوره. فهو سيُعتبر غير أهلٍ للثقة، بما أنّ دولته تطلب استثناءه من الاجتماعات الرسمية». وتُضيف أنّ دور رئيس البعثة خلال اللقاءات «لا يقتصر على تدوين المحاضر، بل هو مسؤول عن متابعة الملفات بسبب وجوده الدائم في الدولة المعنية، ويهتم بإعداد التقارير والاقتراحات اللازمة لتطوير العلاقات». ولكن يحصل أنّه في الدول الكبرى، بعض رجال الأعمال، أقوى دبلوماسياً من رؤساء البعثات.
ما جرى في موسكو مثالٌ بسيط على طريقة تعامل الوزير جبران باسيل مع عدد كبير من أعضاء السلك الدبلوماسي... «إلا الموظفين في الملاك الإداري الذين يعتبر أنّ له مصلحة في بناء علاقة جيدة معهم، أو الذين زكّى هو تعيينهم، حتى ولو كانوا ينتمون إلى الفئات الثالثة والرابعة والخامسة». تهميش الدبلوماسيين، وعدم تخصيص وقتٍ لمقابلة قسمٍ كبير منهم، وممارسة الكيدية مع بعضهم الآخر، هي شكاوى يتناقلها عددٌ منهم. صدرُ هؤلاء ضاق أكثر، بعدما رأوا سماح وزيرهم لجهاز أمن الدولة باقتحام مبنى الوزارة، ورفعه الحصانة عن موظفين من الفئة الأولى، للتحقيق معهم في تسريب ثلاثة محاضر.
تعيين باسيل في «الخارجية» عام 2014، من دون أي خبرة في المجال، لم يكن أمراً استثنائياً. فالعديد من الوزراء يُختارون لتسلُّم حقائب لا تتلاءم مع اختصاصهم. ولكن بالنسبة إلى مُطلعين على ملفّ «الخارجية»، من الصعوبة أن يتمكن وزيرٌ من فهم طريقة إدارة «السِّلك إذا لم يكن جزءاً منه». الحديث تحديداً عن «أعرافٍ وأصول»، تُحدّد شؤون العمل مع الدبلوماسيين وفي البعثات اللبنانية المُنتشرة في العالم. الانتقادات التي تُرفع بوجه باسيل، أنّه لا يُقيم لهذه «القيم» أي اعتبار، ويعمد إلى تهميش دور أعضاء السلك إلى حدوده الدنيا، على حساب تأسيس «سلك دبلوماسي رديف، مُكوّن من أشخاص مُقربين منه سياسياً، أو مسؤولين عن بعثات في بلدان تضمّ جاليات لبنانية يراها الوزير مهمة». وهو في التشكيلات الأخيرة، «لم يُرسل إلى العواصم الأساسية، وإلى البلدان حيث يوجد جاليات لبنانية مُهمة، إلا الأفراد المحسوبين عليه».
إضافةً إلى تهميش البعثات في الخارج، يتحدث دبلوماسيون عن الاجتماعات التي تُعقد في «الخارجية» مع مسؤولين أجانب، «ولا يُدعى إليها المديرون في الوزارة المعنيون بالملفات التي تكون موضوع الاجتماع». يحصل ذلك «مع مديرين مُحددين، لغياب ثقة باسيل بهم، وفي ذلك خرقٌ لكل الأصول». خلال لقاء باسيل مع مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد، في آذار الماضي، لم يُشارك أي مدير في «الخارجية»، بل من كان حاضراً هو رئيس مكتب التيار الوطني الحر في واشنطن طوني حداد. برّر أحد العاملين في فريق عمل باسيل الأمر، بأنّ «حداد هو مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدولية».
سفير في دولة «عُظمى»، لم يطلب موعداً من باسيل منذ أربع سنوات، بعد رفض طلبه


تصرفات باسيل أسهمت في إضعاف السلك الدبلوماسي، وزيادة نسبة «الفلتان» داخله، عوض أن ينقل «مانيفستو» التيار الوطني الحرّ الإصلاحي إلى الوزارة. بنى بنفسه حائطاً بينه وبين النسبة الأكبر من الدبلوماسيين، هو الذي لا يقضي وقتاً إلا نادراً في وزارته. يُقارن دبلوماسيون مضت سنوات طويلة على خدمتهم بين العهد الحالي، وعهود سابقة تعود إلى يوم ما كان جان عبيد وزيراً للخارجية، مُشيرين إلى أنّ «سفراء وقناصل ومستشارين وموظفين إداريين، كانوا يقابلون الوزير كلّما دعتهم الحاجة إلى ذلك». حالياً، دار الدولاب وبات هناك «نظام» جديد: التواصل عبر الرسائل القصيرة أو «الواتساب»، ويكون حظّ المُرسل كبيراً إذا ردّ عليه الوزير قبل منتصف الليل. سفيرٌ في إحدى الدول «العُظمى»، لم يطلب موعداً من باسيل منذ أربع سنوات، «لأنني طلبت مرتين سابقاً، وقيل لي إنّ برنامج الوزير مضغوط». أما رئيس بعثة أخرى، فمنذ ثلاث سنوات لم يُحدَّد له موعد لمقابلة الوزير الوصي عنه، فضلاً عن مديرين داخل الإدارة المركزية لا يلتقونه. فالوزير يعتقد أنّ من «الأربح» له إيجاد وقت لمقابلة «ناشطين» على وسائل التواصل الاجتماعي، أو إعلاميين معارضين له لتحويلهم إلى «مُعجبين» به، من متابعة شؤون فريقه. بعض رؤساء البعثات اللبنانية يتخذون مواقف سياسية في الدول المعتمدين فيها، ويقومون بنشاطات ويتابعون شؤون الجالية، من دون أن تَرِدَ إليهم أي تعليمات من وزارتهم! تتكرر هذه الشكوى على لسان أكثر من دبلوماسي، في مقابل زملاء لهم يقولون: «نسمع أنّ البعض لا يُحدّد له موعد لمقابلة الوزير بسبب جدول أعماله. ولكن نحن لم نواجه هذه المشكلة».
لم يتسلم باسيل سلكاً دبلوماسياً «عظيماً». فالملاحظات على عمل البعثات وفعاليتها كانت كثيرة، تماماً كما ضعف انتظام دورة العمل داخل الإدارة المركزية. ولكن «الرهان» و«الأمل» على باسيل، كان على اعتبار أنّه نشيط جداً، وقادر على إرساء النظام. العكس هو ما حصل، إن كان في كيفية اختيار الدبلوماسيين والقناصل الفخريين أو في متابعة ملفّ المغتربين... يردّ مستشارون لدى باسيل على ذلك بالسؤال: «هل كان السلك في أوج أحواله قبل وصول باسيل؟ أنتم لا تقاربون الأمر بموضوعية، أما من يفعل ذلك فيمكنه رؤية التحسن في السلك». ولكن، يُضيف المستشارون أنّه «إن لم يظهر التغيير حالياً، فسيكون ذلك على المدى البعيد».