يدافع فريق من العهد بقوة عن الزيادة على القيمة المضافة، مع الإبقاء على الرسوم الجمركية على حالها. ويشرح فريق من الاقتصاديين الجديين مخاطر الزيادة على هذه الضريبة وبقاء الرسوم الجمركية، واتفاقيات لبنان مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية، وتأثير ذلك على تصدير المنتجات اللبنانية أيضاً في المقابل، لكن رأي هؤلاء الخبراء لا يُسمع ولا يؤخذ به. لأن ثمة مسلمات يؤمن بها العهد وأركانه، لا يجب أن تُمسّ، حتى لو كان منتقدوها اقتصاديين من الطراز الرفيع، وهي التي يجب أن تعتمد في سياسة النصف الثاني من العهد.الكلام عن هذا الجانب لم يعد اقتصادياً، إذ قيل ويقال فيه الكثير، ومن أصحاب الشأن أنفسهم. الكلام سياسي، والمفارقة أن حزب الله وقف في وجه هذه الضريبة الجديدة إلا على الكماليات، ووقف في وجهها مقربون من العهد، إلا إذا أزيلت الرسوم الجمركية، من دون أن يأخذ هذا الرأي حيزه التطبيقي، علماً بأن هؤلاء ينتقدون أيضاً المغامرة غير المحسوبة للوزير جبران باسيل في الدخول متأخراً في موضوع الموازنة، وطرح بنود تعجيزية، في اللحظات الأخيرة للنقاش الحكومي وإعادة النقاش الى النقطة الصفر، كما حصل في مرحلة قانون الانتخاب وتأليف الحكومة، من أجل أن يقطف ثمار الإنتاج وحده.
هو كلام اجتماعي في الدرجة الأولى والأخيرة، لأن ما يحصل بدأ يجافي كل المنطق الاجتماعي والسياسي الذي تقوم عليه فكرة العيش بكرامة وحرية في لبنان من الجانب الاقتصادي أقله، وحق اللبنانيين في أن يأكلوا ويشربوا ويلبسوا ما يريدون.
خلال عهد الرئيس الراحل رفيق الحريري، قال في أحد لقاءاته مع مجموعة من الصحافيين، في شرحه لإجراءاته الاقتصادية المتزمتة تجاه اللبنانيين إنه لا يحق لصحافي مثلاً (علماً بأنه كان حينها قد رسخ فكرة المجموعات التي كانت معه وفق «payroll» وباتت تعيش وفق نمط اقتصادي مرفّه) أن يرتدي البذلة المرتفعة الثمن الذي يمكن الحريري أن يرتديها، وهو المقتدر. قوبلت عبارة الحريري حينها بانتقادات كثيرة، رغم أنه كان يبررها باختلاف سلّم الرتب بين موظفين ورئيس حكومة.
بعد خصومة طويلة عمرها سنوات لمشروع الحريري الاقتصادي، وبعد تدهور الأوضاع الاقتصادية للشريحة الكبرى من اللبنانيين، هناك ملامح اقتصادية للعهد تشبه أقوال الحريري الأب. لان التبرير الذي تعطيه شخصيات بارزة في العهد، للترويج لفكرة زيادة الضريبة على القيمة المضافة، ووضع رسم على الاستيراد يغطى بحماية الإنتاج الوطني. لكن أبسط القواعد الاقتصادية، مهما كانت عدم معرفة قائلها بالنظريات المالية، هي أن هذه الضريبة لا تمس فحسب البضائع الأجنبية المطلوب رفع الضرائب والرسوم عليها لحماية الإنتاج المحلي، بل تمس كل يوميات اللبنانيين المعيشية والاجتماعية والصحية والمصرفية والخدماتية وفواتير الكهرباء والهاتف والمطاعم والسوبر ماركت، ما يعني أن الزيادة مجدداً عليها ستضاف الى أعبائهم الموجودة أصلاً.
بعد خصومة طويلة مع مشروع الحريري، ثمة ملامح اقتصادية للعهد تشبه أقوال الحريري الأب


أما عن حماية الإنتاج المحلي، ومضاعفة الرسوم بشقّيها الجمركي والضريبي على البضائع المستوردة لحماية الإنتاج المحلي، فهي أمر عبثي وسوريالي. ما هي البضائع التي يراد حماية الإنتاج اللبناني منها؟ وهل هي لسبب اقتصادي وطني أم أنها لتكريس الطبقية أكثر في لبنان؟ فأي إنتاج محلي يحتاج الى حماية. مصانع السيارات التي يعفى من جمركها المسؤولون الروحيون والسياسيون وعائلاتهم أم اليخوت المتربعة على عروش البحر اللبناني النظيف، أم مصانع الحرير الذي تنتجه فبارك جبل لبنان نتيجة عمل صبايا المجتمع اللبناني وشبابه في تربية دود القز، وغابات الكاكاو لتصنيع الشوكولا والحلويات في لبنان، وإنتاج اللحوم المبردة والمقددة؟ حتى الطحين لصنع الخبز اللبناني هو طحين مستورد. وأي مأكولات يمكن أن يطمئن إليها اللبناني من دون المس بها وبمكوناتها والرقابة عليها، إن لم تكن مستوردة من الخارج بما يطمئن اللبنانيين الى جودتها، حتى إن هناك مواد تلوينية للرسم، والزجاجيات، تدخل فيها مواد مسرطنة، لا يمكن استخدامها إلا إذا كانت مستوفية الشروط الدولية للحفاظ على سلامتها، وهو ما ليس معمولاً به في لبنان.
يقول رئيس الجمهورية إنه يلبس ثياباً من صنع وطني، لكن الأكيد أن هذا ليس حال رجال العهد ونسائه ووزيراته ونائباته، ولا يمكن الاعتقاد أن فولارات وربطات العنق «Hermes» المتطايرة بين مقار الطبقة الحاكمة، هي من صنع مصانع لبنانية. ولا يمكن الاعتقاد أيضاً أن الطبقة التي تستورد من الخارج زهوراً نادرة، سعر الواحدة منها يزيد على 15 دولاراً، لإقامة أعراس أولادها، مهتمة كثيراً بالإنتاج المحلي، حتى حين يتضاعف في صورة دراماتيكية إقفال محال تجارية بالجملة، من دون أن يرفّ جفن أحد، وتقفل فروع محالّ تجارية عالمية لأدوات منزلية «راقية»، لأن السفر الى دبي وشراء المنتوجات نفسها فيها بات أوفر بسبب الضريبة والجمارك اللبنانية. ورفع الضريبة على القيمة المضافة يعني أيضاً أن محال «outlet» في لبنان باتت أكثر من محال الخضر والفاكهة، وأن مستوردين لبضائع أجنبية سيوقفون استيرادهم لأن الضريبة الجديدة، مع إبقاء الرسوم الجمركية، تعني وقف أعمالهم، لا الحد منها فحسب.
يحق للبناني أن يختار أي بضائع يريد أن يشتري وأن تكون أسواقه مفتوحة، وهذا لا يعني التخلي عن هوية ولا عن مطبخ لبنان أو منتجات لبنانية، لأن الأكيد أن الذين تطاولهم هذه القرارات الهمايونية، هم من الباقين في لبنان ويعرفونه شبراً شبراً ويأكلون مأكولاته وزعتره وزيته ويشربون من مياهه. ما نشهده اليوم اتجاه الى سوق هويتها الاقتصادية مجهولة، فلا نعرف إذا كانت يمينية أو اشتراكية أو شيوعية أو مبادئ اقتصادية صنعت في لبنان. وقد يكون مناسباً ربما أن يكرس لنا العهد وأربابه زياً موحداً، وقصعة من الأرزّ كما حال بعض الرهبان. ذلك أفضل وأسهل من حوارات الموازنة العقيمة.