اعتكف القضاة للمطالبة بحقوقهم التي هددتها موازنة 2019، وأعلن نحو ٤٠٠ قاضٍ من أصل 530 قاضيا وقف العمل استنكاراً للمسّ بمكتسباتهم. دخل ضمن هذا الحراك القضائي «نادي قضاة لبنان» (يضم ٩٥ قاضياً) الذي تأسس في نيسان 2018. وترافق الاعتكاف مع تدخّل مجلس القضاء الأعلى لفضّه. بدأت الأعداد بالتناقص. عُقدت جمعية عمومية للبحث في التوجّه الذي سينحوه القضاة، فجاء قرارهم بتمديد الاعتكاف. تريّثوا قبل التصعيد. والتصعيد يعني عدم البتّ حتى بمسألة الموقوفين والقضايا الاستثنائية التي لم يطلها الاعتكاف. الجمعية العمومية الأخيرة حضرها نحو ١٥٠ قاضيا، وكلّفهم نحو مئة آخرين بالحديث باسمهم. نقص الرقم إلى ٢٥٠ قاضٍ. ترافق ذلك مع ارتفاع الصرخة ضد القضاة المعتكفين الذي يُعطّلون شؤون البلاد. بدأ ذلك رئيس الجمهورية وحذا حذوه وزير العدل ألبير سرحان الذي اعتبر أنّ «عدم تجاوب القضاة المعتكفين مع رغبة رئيس البلاد باستئناف العمل أمر مؤسف». كذلك استنكر المحامون استنكاف القضاة عن أداء واجبهم والإضرار بمصالح المتقاضين. وانضمّ إلى المستنكرين أبناء السلك نفسه. إذ ينقسم القضاة على بعضهم. «قضاة سُلْطَة» وقضاةٌ «معارضة». لم يتوقّف الضغط على المعتكفين. فقد أصدر مجلس القضاء الأعلى الخميس الفائت «تعميماً إلى السادة القضاة» أعطى فيه نهاية أيار (نهار الجمعة) مهلة أخيرة للقضاة للتراجع وإلا «يتحمل كل منهم مسؤوليته عن موقفه».
(هيثم الموسوي)

كذلك طلب رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد من الرؤساء الأول للمحافظات إعداد لائحة بأسماء المعتكفين. و صدرت تعميمات داخلية دعت من يريدون الاستمرار بالاعتكاف إلى التوقيع بجانب أسمائهم ضمن لائحة موجودة لدى الرؤساء الأول. أمام هذه الخطوات، تراجع عدد من المعتكفين. يقول أحدهم لـ «الأخبار»: «تهديد مجلس القضاة أثّر في عدد من القضاة. بعضهم سيعود عن الاعتكاف فيما الآخرون تمسّكوا بالاعتكاف ضد هذه الإجراءات القمعية». إزاء هذه الإجراءات، يُعلّق أحد القضاة: «بدل قمع القضاة المعتكفين وملاحقتهم، لماذا لا يسألون التفتيش القضائي عن اعتكافه؟ لماذا لم تُكمل ملاحقاته للقضاة في قضايا الفساد؟ ألم تتوقف بضغط سياسي؟ يقول هذا القاضي إن «وزير العدل لاقى مجلس القضاء وشارك في قمع القضاة»، مشيراً إلى أنّ «مجلس القضاء مُسلّم تماماً للسلطة السياسية». أما عن هدف الاعتكاف، فيقول أحد القضاة المعتكفين لـ «الأخبار»: «الاعتكاف هو الوسيلة الوحيدة للقضاة للضغط، هو امتناعٌ عن العمل لرفع الصوت استنكاراً للضربات التي يتعرّض لها القضاء». يرى هذا القاضي أنّ «الجزّ» مستمر منذ ثلاث سنوات، متحدثاً عن «سياسة معتمدة لإنقاص ما هو ممنوح للقضاة أصلاً». ويضيف: «يتحدث هؤلاء عن قضاء قوي وعادل، كيف يرون أنّهم يُعززون القضاء بذلك؟».
قاضٍ آخر انضم إلى الاعتكاف يتحدّث عن «خفض عشرة في المئة من مساهمة الدولة بصندوق التعاضد البالغة عشرة مليارات و٨٠٠ مليون ليرة، وخفض قيمة كل عائدات قانون السير من ٣٠ ٪ إلى ٢٥٪ حصراً من أحكام السير. ناهيك عن إلغاء ميزات لوحات السيارات وتخفيض ١٥٪ من المنح المدرسية». يُعدد هذا القاضي التشحيل الذي تتعرض له مكتسبات القضاة ليتحدث عن «موقفٍ مزرٍ» لمجلس القضاء الأعلى: «لم يكن موقف مرجعيتنا مثل موقف حاكم مصرف لبنان». ويرى هذا القاضي أنّ «رئيس مجلس القضاء أعلن أنّه تمّ الحفاظ على كل المكتسبات. هذا إنكار إرضاءً للسلطة». قاضٍ ثالث يُضيف: «المسألة ليست أموراً مالية، إنما معنوية أيضاً. نُريد قضاءً مستقلاً. الخسارة الأكبر للمواطن أن ليس لديه قضاء مستقل، إنما قضاء تابع للسلطة السياسية. والمقصود بالاستقلالية الاستقلال المالي والإداري».
يستغرب القضاة حملة القمع التي تُشنّ ضدهم تحت شعار الحرص على مصالح الناس. يستعيد أحدهم سلسلة أحداث من شغور موقع رئاسة الجمهورية لسنتين إلى تعثّر التأليف الحكومي لأشهر إلى إقفال المجلس النيابي، ليسأل ألم يُضرّ هؤلاء بمصالح الناس؟ هل بات الاعتكاف لمدة شهر يُشكّل خطراً عللا مصالح المواطنين أكثر من كل ما سبق؟ ورغم أنّ الموازنة كانت الشرارة التي أطلقت الاعتكاف القضائي، إلا أنّه ليس الأول الذي يُنفّذه القضاة. فقد سبق أن دعا مجلس القضاء الأعلى القضاة إلى الاعتكاف عام ٢٠١٧ احتجاجاً على المسّ بصندوق تعاضد القضاة في سلسلة الرتب والرواتب. كما اعتكفوا للسبب نفسه عام ٢٠١٨ احتجاجاً على الدعوة لتوحيد الصناديق.
لا يسير القضاة كلّهم في الركب نفسه. إذ يرى المعارضون منهم للاعتكاف أنّ «المعركة التي يقودها دونكيشوتية». يقول أحد القضاة لـ «الأخبار» إن «القضاء سلطة دستورية، لكنّها لا تملك استقلالية مالية. واقع القضاء اليوم مع بعض حالات الفساد لا يُلغي أصل السلطة لديه. والسلطة، بالمبدأ، لا تعتكف لأن الاعتكاف يعني اعتزال قيامها بواجبها الدستوري». ويخلُص إلى أنّ لكلّ مبدأ استثناءات. فما هي هذه الاستثناءات؟ يُجيب: «السلطة بالمبدأ لا تعتكف، لكن إذا اعتدت السلطة التشريعية على السلطة القضائية عبر مخالفة الدستور، على الأخيرة أن تأخذ موقفاً قد يكون على شكل اعتكاف، لكنه لا يجوز إلا إذا كان هناك خطر جسيم يتهدد السلطة القضائية. وهذا ما حصل في الاعتكاف السابق. أما اليوم، فهذا التهديد معدوم».
تجدر الإشارة إلى أنّ المعتكفين حددوا الاثنين المقبل موعداً لعقد جمعية عمومية ليتقرر فيها إن كانوا يُريدون الاستمرار بالاعتكاف.