منذ أن فرض العدو الإسرائيلي الأمر الواقع ببناء جدار في نقطة التحفّظ في عديسة - مسكافعام من دون ردّ لبناني، والعدوّ يستسهل الاعتداء على الأراضي المتحفّظ عليها في الجنوب. مطلع الشهر الجاري، بدأ العدوّ بضمّ ما مساحته 144886 متراً مربعاً من الأرض اللبنانية وبنى فيها جداراً إسمنتياً ضخماً، نازعاً من لبنان واحدة من أوراق الضغط في أي مفاوضات محتملة تطاول الحدود البرية مع فلسطين المحتلة. إلّا أن الردّ اللبناني وقتها كان الصمت، في قرار اتخذ في جلسة لمجلس الدفاع الأعلى يوم 10 كانون الثاني 2019 (راجع «الأخبار» يوم 26 كانون الثاني 2019)، بذريعة أن العدو الإسرائيلي عازم على بناء الجدار في هذه البقعة لحماية مستعمرة مسكافعام، وأنه مستعد للتصعيد إذا صعّد لبنان موقفه.وبالسياسة ذاتها، يحاول العدوّ الإسرائيلي منذ أسابيع، فرض أمر واقع في محيط نقطة التحفّظ (B1) في رأس الناقورة، وإلى الغرب منها، وهي النقطة المفصلية في تحديد الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. غير أن تحركات العدو أمس وخلال الأسبوعين الماضيين، تأتي بالتزامن مع الترتيبات لإجراء تفاوض غير مباشر بين لبنان والعدو الإسرائيلي لتحديد الحدود البرية والبحرية بوساطة أميركية يرعاها مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد.
قبل نحو أسبوعين، وقبل عودة ساترفيلد الثانية إلى بيروت آتياً من فلسطين المحتلة، أبلغت قوات الطوارئ الدولية اليونيفيل، الجانب اللبناني، بأن العدو عازم على القيام بأشغال في منطقة الناقورة، قرب نقطة الـ(B1). ولم يتضح وقتها هدف الورشة، مع شكوك في أن العدو ينوي تركيب أبراج مراقبة في المحيط. إلا أن العدو أبلغ أنه ينوي تطوير السياج التقني في أكثر من بقعة، شرقيّ بوابة الناقورة، واستكمال بناء الجدار في نقاط خارج نقطة التحفّظ. وتبيّن أن العدو ينوي أيضاً بناء جدار في منطقة التحفّظ. اعترض لبنان يومها، وأبلغت السفيرة الأميركية في بيروت إليزابيث ريتشارد وساترفيلد، الذي بحسب المعلومات طلب من العدو وقف الأعمال في المناطق المتحفّظ عليها، وحصل من العدو الإسرائيلي على تعهّد بذلك، بعدما بدا وكأن استكمال أعمال البناء قد تهدد حصول المفاوضات المزعومة.
لكن كعادته، لا يلتزم العدو أيّ عهد أو وعد، ولا يفهم بغير لغة القوة، إذ بدأ يوم الخميس الماضي بورشة غربيّ بوابة الناقورة - شرق الـB1، ليكمل أمس أعماله بنصب عمود حديدي ضخم مخصص لوسائل التجسس وكاميرات المراقبة. وتذرّع العدو لليونيفيل بالضرورات الأمنية لنصب العمود والمعدات التجسسية، وكل ذلك في مناطق لبنانية محتلّة (متحفّظ عليها في لغة قوات الطوارئ الدولية). وبالتوازي، استكمل العدو أمس ما بدأه يوم الخميس من أعمال شرقيّ نقطة (M1) الواقعة إلى الشرق من بوابة الناقورة، وحفر خندق وتمديد توصيلات أيضاً في منطقة محتلة (متحفّظ عليها، لكن يوجد جدار تقني عليها منذ زمن طويل).
تطوّرات أمس تؤكّد أن العدو الذي يستند إلى دور ساترفيلد في محاولة بدء مفاوضات مع لبنان، يعوّل على استمرار لبنان في مسار المفاوضات، ولو قام بتحركات استفزازية تنتج لاحقاً أمراً واقعاً باحتلال أراضٍ لبنانية. ويؤكّد السلوك الإسرائيلي المؤكّد، أنه لا يأبه لوعوده للأميركيين وأن الأميركيين لا يفكّرون في غير المصلحة الإسرائيلية.
العدو فرض على الجيش اللبناني عبر اليونيفيل عدم استعمال أبراج المراقبة الخاصة به


ومن المفيد التذكير بأن المنطقة التي يشرف عليها عمود التجسس الجديد، هي منطقة لبنانية مئة بالمئة، لكن تبعد عنها أقرب نقطة للجيش اللبناني نحو 260 متراً إلى الشمال، ويمنع على لبنان التعامل معها كأرض لبنانية بذريعة وجود مقرّ للأمم المتحدة فيها تجري فيه اجتماعات اللجنة الثلاثية. وكان سبق لاستخبارات الجيش أن طالبت بوضع حاجز لها في تلك البقعة بالقرب من مدخل نفق سكة القطار القديمة، إلّا أن العدو الإسرائيلي رفض رفضاً قاطعاً. ولم يتمسّك الجانب اللبناني بموقفه.
أمر لافت آخر، هو كيفية التعامل مع العدو الإسرائيلي وما يسمّيه «حاجاته الأمنية». إذ إن قيامه بتركيب أجهزة تنصت ومعدات تجسس على طول الحدود مع لبنان ورفع المناطيد التجسسية، لا يستدعي من الحكومة تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، بينما يُضغَط على لبنان لمنع الجيش اللبناني من استخدام أبراجه البدائية المنتشرة قرب الحدود مع فلسطين المحتلة، بذريعة أن مدنيين يستخدمون تلك الأبراج في إشارة إلى رجال المقاومة، فتُعطَّل الأبراج من دون ممانعة من القوى العسكرية ولا من السلطة السياسية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقعة الأرض التي تضم الـ(M1) وصعوداً منها إلى الشرق نحو نقطة الـ(M2)، إذ لا يستطيع الجيش الوصول إليها لغياب أي طريق، ولانتشار الألغام والقنابل العنقودية فيها، وقد حاول الجيش مراراً الوصول إليها وتنظيفها، إلا أن محاولاته قوبلت بالرفض من جانب العدو الإسرائيلي.
فهل سيتخذ لبنان خطوات عملية للرد على الاعتداءات الإسرائيلية وفرض السيادة اللبنانية وتهديد المسار التفاوضي، أم أن العدو نجح هذه المرّة أيضاً كما نجح في مسكافعام؟