لم يكن مفاجئاً أن تظهر إسرائيل مربكة إزاء ما أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، عن الصواريخ الدقيقة. وتحديداً ما يتصل بالتلويح ببناء مصانع إنتاج الصواريخ الدقيقة رداً على تواصل الضغوط الأميركية في هذا الصدد. ولم يكن مفاجئاً أيضاً أن يظهر هذا الإرباك على لسان رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان)، اللواء تامير هايمن، الذي أعلن أنه «بحسب فهمنا للقدرات الصاروخية (لحزب الله)، فإنها ليست فعلاً دقيقة». وخصوصية هذا الموقف على لسانه تنبع من كونه مسؤولاً عن هذا الملف، باعتباره أحد أهم العناوين الذي يتابعه هذا الجهاز. وما أعلنه نصر الله عن القدرات والاستعداد لبناء مصانع شكَّل ضربة مباشرة للاستخبارات العسكرية التي يتمحور نشاطها حول تقدير نيات العدو وقدراته، ويبدو أن كل الطاقم القيادي للاستخبارات العسكرية، ومن خلالها كل المؤسسة الأمنية والكيان الإسرائيلي، شعر بالصفعة التي تلقاها من نصر الله. وهو ما دفع هايمن الى المكابرة ورفض الإقرار بفشل مؤسسته الاستخبارية وكل من توالى على رئاستها، فاختار سياسة مواجهة الواقع عبر إنكاره والانقلاب على كل الخطاب الرسمي الإسرائيلي، الذي أعلنه مَن سبقه في المنصب نفسه، فضلاً عن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو والخبراء والقادة والمحللين العسكريين في إسرائيل.
مفاعيل الإقرار بالوقائع قد تكون أحياناً أشد خطورة من الوقائع نفسها(مروان طحطح)

مع كلام هايمن أمام مؤتمر مركز تراث الاستخبارات الذي نُظِّم كجزء من معرض السلاح ISDEF في تل أبيب أو بدونه، كان واضحاً أن ما أعلنه نصر الله سيحضر على طاولة مؤسسة القرار السياسي والأمني. مع ذلك، فقد كشف كلام هايمن أنه أتى بعد تقدير أجرته المؤسسة الاستخبارية، حول كيفية التعامل مع الرسائل التي اختار نصر الله احتفال يوم القدس لإطلاقها، وخلصت الى ضرورة احتواء مفاعيل هذه الرسائل التي عززت معادلة الردع لمصلحة حزب الله، وفرضت خيارات ومسارات مُحدَّدة أمام الوسيط الأميركي الذي يحاول استغلال المحادثات حول ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، لإثارة هذه القضية التي تؤرق كيان العدو.
سبق لنتنياهو أن أكّد في الأمم المتحدة وجود صواريخ في حوزة حزب الله تصل دقّتها إلى 10 أمتار


قد يكون مفهوماً الإرباك الذي أصاب قادة تل أبيب، لكن لم يكن متوقعاً أن ينحدروا الى هذا المستوى اللامهني. إذ كيف تكون الصواريخ التي أطلقها الحرس الثوري الإيراني، وأصابت مقر اجتماع الحزب الكردي المعادي للنظام الإسلامي في طهران، على بعد نحو مئتي كيلومتر، خلال العام الماضي، بهذا المستوى من الدقة، ثم تكون هذه الصواريخ نفسها التي تتحدث إسرائيل عن أن إيران زوّدت وتزوّد بها حزب الله في لبنان غير دقيقة؟ وكانت هذه الضربة بالذات قد حظيت بالتعليق على لسان كبار الخبراء والقادة في إسرائيل لجهة الإشارة الى مستوى دقة الصواريخ التي تم استخدامها. ويتعارض هذا الموقف، أيضاً، مع ما سبق أن أعلنه رئيس أركان جيش الاحتلال غادي آيزنكوت، الذي تحدث في أكثر من مناسبة عن صواريخ حزب الله الدقيقة، في سياق الحديث عن افتراضه وجود أعداد مُحدَّدة لها. بل إن هايمن انقلب على سلفه في المنصب اللواء هرتسي هليفي الذي كان أول من رفع الصوت محذّراً، أمام مؤتمر هرتسيليا 2017، من الصواريخ الدقيقة التي ينشرها حزب الله في جنوب لبنان، ومن حينه توالت التقارير والمواقف والحملات الإعلامية والسياسية التي لا تزال متواصلة حتى الآن.
وما دام أنه ليس هناك صواريخ دقيقة عند حزب الله، فلماذا جال نتنياهو على عواصم القرار الدولي، من واشنطن الى موسكو، الى باريس والاتحاد الأوروبي، ولماذا رفع الصوت عالياً من على منبر الأمم المتحدة محذّراً من صواريخ حزب الله الدقيقة «القادرة (بتعبير نتنياهو) على بلوغ عمق الأراضي الإسرائيلية بمدى دقة من 10 أمتار»، وزعم في ذلك الحين وجود ثلاث منشآت تقوم بمهمة تطوير الصواريخ الى صواريخ أكثر دقة؟ (خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة يوم 27 أيلول 2018).
ولماذا يجول المبعوث الأميركي ديفيد ساترفيلد على المسؤولين اللبنانيين، طالباً منهم الضغط على حزب الله، من أجل إزالة مصانع الصواريخ الدقيقة في لبنان (قال الأمين العام لحزب الله إن المصانع غير موجودة في حوزة المقاومة، لكن الصواريخ الدقيقة موجودة)؟ وما دامت إسرائيل في أحسن أحوالها على كل الجبهات، كما حاول أن يقدم هايمن في كلمته، فلماذا كل هذا الصراخ والتهديد والاستنجاد بموسكو وواشنطن وغيرهما؟
من الواضح أن حجم الضغط الذي تركته رسائل نصر الله على قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، لم تترك لهم خيارات واسعة. وهو ما يتضح مما كشفه المعلق العسكري في القناة الـ 13 الإسرائيلية، أور هيلر، عندما قال: «قال لنا رجال تامير هايمن في الجيش إنه قرأ خطاباً مكتوباً، وإنه جاء الى هذا المؤتمر وهو جداً مستعد... وكان الخطاب مدروساً جداً، وقد حصل على موافقة من أعلى المستويات في إسرائيل». واللافت أن هيلر تابع مفسراً كلام هايمن بأن المسألة هي عبارة عن «حرب نفسية، ويوجد هنا حرب رسائل بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله»، وأن قادة العدو يراهنون بذلك على أن يعيد نصر الله حساباته.
يبرز في هذا السياق فارق جوهري بين الحرب النفسية التي شنها هايمن، والحرب النفسية التي يشنها حزب الله، أن الأول انقلب على المسلمات في إسرائيل، فيما يبدي حزب الله حرصاً شديداً على أن تستند حربه النفسية الى وقائع فعلية، إدراكاً منه بأن صدقيتها تشكل شرطاً ضرورياً لفعاليتها في وعي العدو والحلفاء وجمهور الطرفين.

آيزنكوت تحدث في أكثر من مناسبة عن صواريخ حزب الله الدقيقة، مفترضاً وجود أعداد مُحدَّدة لها


رغم ما تقدم، فإن محاولة استكشاف مبررات ما دفع الاستخبارات العسكرية الى خيار «الكذب» المفضوح، تفضي إلى ملاحظة أن هذا الخيار أتى بعدما وجدت القيادة الإسرائيلية نفسها أمام خيارين لم تستطع تبني أي منهما: إما التجاهل الرسمي لكلام نصر الله، أو الإقرار به. ووجدت أن لكل منهما مفاعيله السلبية على الواقع الإسرائيلي وعلى معادلات المنطقة، وخاصة أن المواقف والخيارات التي طرحها قائد المقاومة في كلامه حضرت بقوة في كل أوساط القادة والنخب والرأي العام المعادي والحليف. أما بخصوص الإقرار الصريح والمباشر بالمعادلات التي أعلنها نصر الله، فتكفي العودة الى ما سبق أن أوضحه رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي اللواء أيتسيك ترجمان، لتكشف الخطورة التي تنظر من خلالها إسرائيل الى هذا النوع من القدرات: «في كل دولة هناك أرصدة حيوية يجب ألا تصاب. مصادر الطاقة، خزانات الوقود، مصانع السلاح، المراكز السكانية... 50 متراً يمكن أن تشكل فارقاً مهماً بين ضرر غير مهم وقدرة على شلّ هذه المرافق والإضرار بالقدرة التشغيلية للدولة ومؤسستها الأمنية... بواسطة 20 صاروخاً (دقيقاً)، يمكنك شلّ عمل الدولة. هذا هو الفارق» (يديعوت أحرونوت، 6 تشرين الأول 2017). وفي السياق نفسه يندرج أيضاً ما نقلته «وول ستريت جورنال» عن مصادر رسمية إسرائيلية محذّرة من خطورة ومفاعيل امتلاك حزب الله صواريخ دقيقة بالقول، إنها «قادرة على اختراق الأهداف الإسرائيلية، وإن سلاحاً كهذا يمكن أن يسحق التفوق العسكري التكنولوجي لإسرائيل في المنطقة، ويربك جهودها في الدفاع عن حدودها ومدنها الشمالية» (8 كانون الأول 2018).
هكذا يبدو واضحاً أن رسائل نصر الله فعلت فعلها في تل أبيب، ما دفع المؤسسة القيادية إلى أن تجترح خياراً بديلاً من الخيارين السالفين (التجاهل أو الإقرار) بالانقلاب على كل خطابها ومواقفها و ــــ قبل كل ذلك ــــ على الواقع، فتواجهه بالإنكار، على أمل أن يساهم ذلك في طمأنة الجمهور الإسرائيلي. والسبب يعود الى أن مفاعيل الإقرار بالوقائع قد تكون أحياناً أشد خطورة من الوقائع نفسها، فتضطرّ الى التعمية عليها وعلى جمهورها. هي حالة تصيب الكيانات التي دخلت زمن الترهل.