يبدو رئيس الحكومة سعد الحريري الوحيد بين القيادات الحالية، ممن يوجد على كتفه أكثر من حمل. ويكاد يتفرد عن غيره من القيادات، بتعرضه لهذا الكمّ من المراجعات والمعاتبات العلنية والداخلية، ويتميز عنها جميعاً بأنه مطوَّق من داخل بيته، والجو السياسي الذي يضغط عليه منذ أشهر، من دون أن يلوح في الأفق أيّ حلّ لأزماته المتمادية.لا يشبه وضع الحريري ما يعيشه الرئيس نبيه بري أو القيادات الأخرى كوليد جنبلاط أو سمير جعجع أو سليمان فرنجية، وطبعاً قيادة حزب الله. فما أسفرت عنه الانتخابات النيابية ومفاوضات تأليف الحكومة، جعله «مأزوماً» في الشارع السُّني وحتى داخل دائرته المقربة، بعدما تعددت الأصوات الرافضة لأدائه. لكن كل ذلك في كفّة، وتجمّع رؤساء الحكومات السابقين ودار الفتوى في كفة أخرى. أن يكون هؤلاء إلى جانبه، فهذا يعني أنه قادر على استيعاب معارضيه وخصومه السُّنة، وحتى منتقديه داخل المستقبل، لكن أن يصبحوا على مسافة، ولو قصيرة منه، وأن تفتح دار الفتوى بابها لمنتقديه، فهذا أمر لا يقدر أن يتحمل تبعاته مهما أعطى من تبريرات بناءً على نصائح دائرة المستشارين الذين تراكم استشاراتهم أخطاء الحريري المستمرة. وبسبب ثقل هؤلاء المعنوي كان «شبه انعطافته» أمس.
تكثر الضغوط على الحريري، فأموال سيدر تأخرت، والوعود بتحسين وضعه سعودياً، تبخرت، ما دام مستمراً في تغييب نفسه عن أيّ تمايز واضح عن العهد، بالمفهوم المطلوب منه سعودياً. ورجال العهد لم يتركوا له مجالاً كي يعزز مجدداً زعامته، لأنهم مقتنعون بأن زوبعته محصورة في فنجان، ما خلا ما أُعطي له في انتخابات طرابلس الفرعية وما رافقها من حيثيات، فاكتفى بدور رئيس الحكومة التقني، كما رسمته له التسوية الرئاسية. وهي، كما يقول أحد السياسيين، ليست تسوية بالمعنى الحقيقي، إنما هي اتفاق سياسي يدفع ثمنه جميع من رفضه، وأولهم الحريري والمستقبل، كما دفعت القوات اللبنانية ثمنه أيضاً. ولعل هنا أهمية ما كان الرئيس نبيه بري يطالب به حين طرح سلة رئاسية متكاملة، ولعل الأطراف التي لم تجارِه آنذاك تدرك اليوم تبعات عدم قبولها بها.
عام 2016 اقترح بري سلة متكاملة، لملء الفراغ الرئاسي، شرط أن يكون انتخاب رئيس الجمهورية من ضمن اتفاق شامل من الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة وتوزع الحصص فيها وقانون الانتخاب، وصولاً إلى ملف النفط. كان هدف رئيس المجلس إجراء تسوية شاملة، يدخل إليها جميع الأفرقاء، ويجري على أساسها التفاهم مع الجميع من دون استبعاد أي طرف، على الحصص وشكل المجلس الجديد والحكومة، والتفاهم بوضوح على كل ما يمت إلى إدارة المشهد السياسي الداخلي، وهذا يعني ضمّ مختلف القوى السياسية الرئيسية من دون استثناء للنقاش في هذه المواضيع والاتفاق على صيغ قابلة للحياة بموجبها. لكن هذه القوى السياسية رفضتها جملة وتفصيلاً. بعضها انتقدها واصفاً إياها بأنها سلة حزب الله، وبعضها، عارضها بذريعة أن بري يريد إدارة الدفة السياسية ويتحكم باللعبة وحده، ومن هذه القيادات من رأى فيها توزعاً «رسمياً» لتقاسم الحصص والنفوذ تحت ستار السلة.
ما جرى بعد التفاهم بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، وتبدل موقف الحريري من ترشيح العماد ميشال عون، سُمِّي تسوية رئاسية، لم يوافق عليها بري وجنبلاط. وما رفضه معارضو السلة، بدأوا يدفعون ثمنه بالمفرق، إن من حصصهم وواقعهم السياسي، وإن من خلال استفرادهم واحداً واحداً. كان من الطبيعي أن يبقى بري من بينهم، وللأسباب المعروفة محافظاً على دوره، فقانون الانتخاب إنما وُضع بإيعاز مباشر منه، وها هو اليوم أيضاً يدخل إلى تعديله مبكراً، كما حافظ على حصته الحكومية من دون أي مسٍّ بها. لكن الآخرين دفعوا أثمان اتفاقهم بطريقة أو بأخرى: الحريري تحول إلى حالته الراهنة أسيراً مكابراً، وتياره العريض انفرط عقده على طريق الانتخابات وتشكيل الحكومة، والقوى السياسية الأخرى أصبحت مقيدة باتفاق الأمر الواقع لا تقدر على الخروج منه ولا تحصد منه سوى بعض القشور. وتشكيل الحكومة بالطريقة التي جرى فيها، أسهم في تعزيز وضع التيار الوطني الحر وإعطائه مع العهد الثلث المعطل، كما الحصة الأكبر في كل يوميات السلطة الأمنية والإدارية والسياسية. رغم قبول الجميع بأن مظلة إقليمية - دولية رعت الاتفاق السياسي الداخلي الذي أتى بعون رئيساً، وبالحريري رئيساً للحكومة، إلا أن سلة بري كانت قادرة على تدوير الزوايا وإلغاء الكثير مما هو قائم حالياً ويجرّ البلد إلى حدود الهاوية. وكل يوم يمرّ على «التسوية» يزيد الاعتقاد أنّ طرح بري كان قابلاً للحياة أكثر، وقادراً على كبح جموح المتفردين بالحكم وتأمين حماية جماعية لكل المشاركين فيها، وأولهم الحريري. فلا ترجح كفة على أخرى، ولا تهضم «حقوق طائفة» أو فريق تحت سقف الحد الأدنى من تفاهم يشترك الجميع في صياغته، ولا يبقى أحد الأطراف أسير طرف آخر، على غرار ما حصل مع الحريري في الأشهر الأخيرة.