لا يزال رئيس الهيئة العليا للتأديب مروان عبود ينتظر الملفات الدسمة، ملفات كبار الفاسدين أو المتّهمين بالفساد في الإدارة اللبنانية. ولأن الانتظار طال، عاد من مجلس النواب، بعد مناقشة الموازنة الهزيلة المخصصة للهيئة، ليكرر مطالبته بتحويل الرؤوس الكبيرة إليه بدلاً من التركيز على صغار المرتشين أو المخالفين الذين يقتصر عمل المجلس، في الوقت الحالي، على محاكمتهم، ربطاً بعدم إحالة أي ملف كبير إليه طيلة السنوات السابقة.العقبة الرئيسية في وجه الهيئة هي، أولاً، القانون نفسه. فالقانون يكبّلها بعدم القدرة على التحرك لمكافحة الفاسدين أو المرتشين، إلا بناءً على إحالة من التفتيش المركزي والجهة الصالحة للتعيين (مجلس الوزراء، رئيس البلدية، مدير المؤسسة العامة). ولمّا كان التفتيش المركزي هو المرجع الوحيد للإحالة في كل ما يتعلق بالإدارة العامة، التي تضمّ ما يزيد على مئة ألف موظف، كان يُفترض أن تشكّل إحالاته الرافد الأساسي للهيئة الوحيدة القادرة على فصل المتورطين من الخدمة، إلا أن النتيجة كانت غياب الإحالات خلال السنوات الخمس الماضية.
لذلك، ولإزالة هذه الثغرة، كان عبود من أوائل المتحمّسين للاقتراح الذي تقدم به النائبان نواف الموسوي وهاني قبيسي، في 4 كانون الأول 2018، ويرمي إلى تفعيل عمل الهيئة العليا للتأديب. فقد نص الاقتراح ببساطة على زيادة عدد الجهات التي يمكنها الإحالة على الهيئة، حيث تجري الإحالة بموجب قرار يصدر عن هيئة التفتيش المركزي أو عن رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المختص (للعاملين في الإدارة والمؤسسات العامة)، أو رئيس الإدارة أو وزير الوصاية (للعاملين في المؤسسات الخاضعة لوصايته) أو ديوان المحاسبة أو النيابة العامة لديه، أو رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة أو رئيس البلدية، كل بحسب صلاحياته، مرفقاً بملف كامل عن القضية». بذلك يكون الاقتراح قد حافظ على حق الإحالة للتفتيش المركزي وللجهة الصالحة للتعيين، لكنه أضاف إليها جهات كان يحق لها الإحالة على التفتيش المركزي فقط (ديوان المحاسبة، الوزراء…)، فصار بإمكانها الإحالة على التفتيش أو مباشرة على الهيئة العليا للتأديب.

لا اختصاص
بعد سبعة أشهر من تقديم الاقتراح لم يسلك طريقه إلى اللجان النيابية، إلا أن المفاجأة كانت في سلوكه الطريق نحو هيئة الاستشارات في وزارة العدل لتعطي رأيها به. إذ تبين أن رئاسة الحكومة طلبت استشارة «غير طبيعية»، على حد قول مصدر قانوني، انطلاقاً من أن المادة الثامنة من قانون تنظيم وزارة العدل (المرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16/9/1983) لم تعط هيئة التشريع والاستشارات صلاحية إبداء الرأي في اقتراحات القوانين المقدّمة من النواب. بل حددت اختصاصها بما يلي:
أ - إعداد وصياغة مشاريع القوانين والمراسيم والقرارات التنظيمية والتعاميم ومشاريع المعاهدات والاتفاقات الدولية التي يطلب منها وضعها.
ب - إبداء الرأي في مشاريع القوانين والمراسيم الاشتراعية والمراسيم والقرارات التنظيمية والتعاميم ومشاريع المعاهدات والاتفاقات الدولية واقتراح التعديلات التي تراها ضرورية».
بذلك يتبين أن الاستشارة يفترض أن تكون مرتبطة بعمل السلطة التنفيذية أو الإدارات بشكل عام، في حين أن اقتراح القانون هو عمل يتعلق بالسلطة التشريعية بشكل مباشر.
ورغم أن هيئة التشريع كان يمكنها أن ترفض الطلب لعدم الاختصاص، إلا أنها لم تفعل، فكانت خلاصة قرارها طلب إعادة النظر في اقتراح القانون.
حتى مع تجاوز هذه الإشكالية القانونية المتعلقة باختصاص الهيئة، وافتراض أن طلب الاستشارة هو حق مطلق للسلطة التنفيذية، فإن نتيجة الاستشارة تبقى غير ملزمة لأحد وخاصة للمجلس النيابي.

صلاحية الإحالة
بالنتيجة، وبعيداً عن الصلاحية، أفتت الهيئة بإعادة النظر باقتراح القانون للأسباب التالية:
- عدم الإشارة إلى المادة أو القانون المقترح تعديله.
- وجوب أن تسلك أي قضية أو ملف طريق التحقيق قبل الإحالة على الهيئة العليا للتأديب، انطلاقاً من أن الأخيرة هي سلطة حكم ولا تقبل قراراتها أي طريق من طرق المراجعة، بما في ذلك طلب الإبطال لتجاوز السلطة أو طلب التعويض عن طريق القضاء الشامل.
- تقرّ الهيئة أن توسيع دائرة المخوّلين بصلاحية الإحالة أمام الهيئة العليا للتأديب تؤدي إلى تفعيل مكافحة الفساد ومعاقبة مرتكبيه، إلا أنها تعتبر أن ذلك ليس كافياًَ لأنها يجب أن تكون مقيدة بسلطة محايدة إدارية أو قضائية تتولى التحقيق قبل إحالة من نُسب إليه ارتكابها إلى المحكمة التأديبية.
- إذا كانت المسألة التي أوجبت اقتراح القانون هي قلة الملفات المحالة للهيئة العليا للتأديب من قبل التفتيش المركزي، فإن الحل يجب أن يكون في تفعيل دور هذا التفتيش وعمله بدلاً من خلق مراجع أخرى للإحالة.

استشارة ضعيفة
تلك الأسباب، كانت محل دراسة قانونية من قبل مكتب الموسوي، وخلصت إلى أن هذه الأسباب نفسها تصلح لإثبات أن الاستشارة بحد ذاتها بحاجة إلى إعادة نظر.
وفي التفاصيل، تورد الدراسة سلسلة أسباب تؤكد ضعف الاستشارة من الناحية القانونية. فهي تستغرب كيف اعتبرت أن اقتراح القانون لا يشير إلى المواد القانونية التي يجب تعديلها، فيما يظهر جلياً في صلبه أنه يرمي إلى تعديل آلية الإحالة على الهيئة، وهي واردة في المادة الثالثة من نظام الهيئة العليا للتأديب (المرسوم 7236/67)، معطوفة على المادة 58 من نظام الموظفين (المرسوم الاشتراعي رقم 112/59). وبالتالي، فإن القانون المقترح يضع نصاً جديداً يُضاف إلى النصوص المتعلّقة بالتأديب، ولا سيما القانونين رقم 54/65 تاريخ 2/10/1965 ورقم 201 تاريخ 26/5/2000، متجاوزاً الإجراءات البيروقراطية المعمول بها حالياً، والتي تفرض إصدار مرسوم بهذا الخصوص (لا مجرد قرار)، مع ما يتطلبه ذلك من موافقات وتواقيع (الرؤساء التسلسليون، المدير العام للوزارة، الوزير المختص، مجلس الخدمة المدنية، رئيس الحكومة، رئيس الجمهورية)، يمكن أن تتحوّل، في حال عدم إتمامها، الى حصانات غير مباشرة للموظف، تحول دون مثوله امام المحكمة.

قرارات قابلة للطعن
الأخطر بحسب الدراسة هو سهو هيئة التشريع والاستشارات عن النصوص القانونية المرعية الإجراء. فإشارتها إلى أن قرارات الهيئة العليا للتأديب «لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة»، إنما تنمّ عن ضعف في معرفة القانون، باعتبار أنه، منذ العام 2000، ومع صدور القانون رقم 227 تاريخ 31/5/2000 (تعديل بعض مواد نظام مجلس شورى الدولة)، أصبحت قرارات الهيئة العليا للتأديب قابلة للطعن أمام مجلس الشورى. وهذا ما أكّدته المادة 64 من القانون المذكور، بإشارتها إلى أنه «خلافاً لأي نص آخر، ينظر مجلس شورى الدولة في النزاعات المتعلقة بتأديب الموظفين».
هيئة التشريع تطلب إعادة النظر باقتراح قانون لتفعيل عمل الهيئة العليا للتأديب


أكثر من ذلك، فإن الدراسة ترفض ما جاء في الاستشارة عن أن إحالة الموظف إلى التأديب مقيّدة بالتحقيق المسبق معه، مشيرة إلى أن نظام الهيئة العليا للتأديب لم يفرض أساساً على الإدارة إجراء تحقيق قبل إحالة الموظف على المرجع التأديبي، ولا بيان موقف رئيسه المباشر من القضية، كما لم يحدد المستندات التي يجب إرفاقها بالإحالة. وبهذا المعنى، ورد في قرار مجلس شورى الدولة رقم 817/2017-2018 تاريخ 14/5/2018 أن التحقيق مع الموظف وإطلاعه على المخالفات المنسوبة إليه والإستماع إلى دفاعه، هي من الإجراءات المتعلقة بحقّ الدفاع التي كرّسها الاجتهاد كمبدأ عام خلال الملاحقة التأديبية، وهي التي يتوجب التقيّد بها حفاظاً على حقّ دفاع الموظف. وقد وردت وروعيت بالكامل في نظام الهيئة العليا للتأديب. وعليه، فإن عدم اشتراط المشرّع على السلطة الإدارية القيام بالتحقيق قبل الإحالة التأديبية، يعني أنه أبقى على سلطتها الإستنسابية بإجراء التحقيق لجلاء الوقائع أو الإكتفاء بالمعلومات والمستندات التي بحوزتها. فضلاً عن أن القاعدة في المحاكمة التأديبية، ليست التحقيق المسبق مع الموظف، بل إعطاؤه حق الدفاع، والتأكد من صحة الوقائع والأفعال المنسوبة إليه، وصحة وصفها القانوني، وبأنها تشكّل فعلاً مخالفةً للقانون وللأنظمة النافذة، وبأنها تبرّر فرض العقوبة عليه.
وخلافاً لما تذهب إليه استشارة هيئة القضايا والاستشارات باعتبار أن قلة الملفات المحالة على التأديب لا تشكل سبباً كافياً لزيادة المراجع المخولة بالإحالة، فإن الموسوي يوضح لـ«الأخبار» أن توسيع مروحة الإحالة على التأديب، من شأنه إزالة العديد من الحواجز والحصانات التي تقف اليوم حائلاً أمام ردع المرتكبين وقمع المخالفات داخل الإدارة، كما من شأنه تفعيل إجراءات التأديب وضبط المخالفات، وبالتالي يجب النظر إليه كإحدى أولويات الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد.