ما حصل في عاليه لم يكن خطيراً بالمعنى الأمني فحسب، بل خطيراً بمعنى مفهوم الكانتونات الذي يفترض أن تكون القوى السياسية قد تخلت عنه بعد انتهاء الحرب واتفاق الطائف. والحشد العسكري الذي واكب جولة رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، والتدابير الأمنية والعسكرية التي اتُّخذت، ومشاهد إطلاق النار، أعادت اللبنانيين إلى الثمانينيات. لكن خطورة ما جرى لا تنعزل عن سياق يتكرس في كل لبنان، بحيث باتت المناطق بعد الحرب ترسّخ أكثر فأكثر فكرة التقوقع الطائفي.قد تكون جولات باسيل فضحت الرفض الشعبي للتيار في مناطق يزروها، ولأدائه الشخصي والسياسي. وهو يساهم في معظم الأحيان باستفزاز القوى السياسية لمجرد أنه يزور مناطق تعتبرها «لها»، ولأنه لم يعد يعبأ بالحملات ضده، ويقول كلاماً يمكن تجنبه ويستمر في جولات تثير ردود فعل هو والبلد في غنىً عنها. لكن هذه الردود التي تحصل وتتنقل من منطقة إلى أخرى، تعبّر أيضاً عن واقع مأزوم يعبّر عن نفسه طائفياً.
لم نرَ بعد الحرب وبعد عام 2005 سوى مزيد من التقوقع الطائفي والسياسي، يغذيه كثير من السياسيين. بهذا المعنى يصبح ما يحصل في الحدت وفي غيرها من البلدات، واقعاً وليس مجرد نزوة أو كسر للتعايش المشترك، لأن معظم المناطق تعيش الواقع نفسه لأسباب دينية واجتماعية وسياسية، من الشمال إلى جبل لبنان والبقاع والجنوب. فقد جرت محاولات لتغيير وجه طرابلس شمالاً ذات الواقع التعددي، لتصبح مدينة بهوية واحدة، كما حصل في صيدا قبلها. وما يحصل في بعض مناطق الجنوب والبقاع أليس انكماشاً طائفياً واضحاً؟ ومحاولات المسيحيين لمنع البيع لغير المسيحيين أليست تعبيراً عن أزمة، كما امتناع المسيحيين عن العودة إلى الجبل؟والأكيد أن حادثة أمس سترتدّ مزيداً من تراجعهم عن البقاء فيه.
إلا أنّ ما يجري ليس نتيجة شعبية، إذ إن كل قوة سياسية تعتاش من التوتير الطائفي لتحافظ على نفوذها، وكأنها تؤمن بأن ما يجمع اللبنانيين اجتماعياً وسياسياً وثقافياً لم يعد نفسه. هكذا يحصل في مواضيع النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين وعرسال والتعيينات وقانون الانتخاب.
لماذا لم نرَ الرئيس نبيه بري يجول في مناطق مسيحية، حتى لو كانت جنوبية أو بقاعية؟ ولماذا لم نسمع رئيس الحكومة سعد الحريري يجول إلا في مناطق الطريق الجديدة وطرابلس وصيدا؟ إذا افترضنا أنه لا يمكن السؤال لماذا لا يزور أحد من حزب الله أي منطقة سُنية خشية الاستفزاز. ولماذا لا يمكن رئيسَ حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، أن يجول في غير قضاء بشري؟ حتى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، معتكف في قضائه وبلدته؟ ولماذا لم نشهد زيارات لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي خارج الجبل؟ كل ذلك أليس استكمالاً فجّاً لحرب ما قبل الطائف؟
والسؤال استطراداً، لا يتعلق بالشحن الطائفي، بل أيضاً المذهبي. لماذا اعتبرت القوات اللبنانية أنها استُفزَّت حين زارها باسيل، هل لأن بشري حصراً للقوات ولا يمكن أحداً دخولها؟ الحملة التي ردّت بها القوات على زيارة باسيل تعبّر عن مأزق، ليس من جهة «تسخيف» جولة باسيل وعدد مستقبليه ولعبه على التناقضات العائلية، بل في أن القوات لم ترَ مشكلة في أن يزور مناطق أخرى في الشمال أو البقاع أو بيروت، فلا تعتبر نفسها مستهدفة إلا حين يزور بشري. ومثله ما حصل في زغرتا حيث اعتبرت زيارة باسيل لها حرتقة على زعامة فرنجية.
كل ذلك في كفة، وما حصل في عاليه كفة أخرى. وكل «أخطاء» باسيل في كفة، واستفزازاته وحادثة كفرمتى ومنطقة بحمدون في كفة أخرى. لأنها تحديداً كفرمتى ومنطقة بحمدون للأسباب المعروفة وما تمثله في حرب الجبل. ليس أمراً عادياً بعد كل المصالحات التي جرت، وآخرها القداس في دير القمر، أن يحصل ما حصل، وأن يجري استخدام حرب الجبل مجدداً عند كل أزمة سياسية، واستعادة لمشاهد تزيد من التقوقع الطائفي وتعيد تسليط سيف الحرب موثقة بمشاهد وشعارات وألفاظ وتعابير.
الخوف الذي شعر به أهل المنطقة أمس، من المسيحيين تحديداً، بدا تعبيراً عن شعور بأنه ممنوع على أيّ زعيم لهم أن يزور الجبل إلا برضى جنبلاط. لكنه لم يكن خوفاً «عونياً»، ولا «باسيلياً». لأن من استذكر حرب الجبل ممن عايشوها، ليسوا عونيين ولا يمتّون إلى باسيل بصلة. خطورة توتر الجبل أنه لن يُسحب سريعاً من التداول، وخطورته أيضاً أنه سيكون موضع استغلال من الطرف المستهدف ومن الذين سيزايدون في مجاراة من قام به ضد باسيل. وهذه حلقة لا تنتهي. فالعونيون، ومنهم نواب ووزراء، بالغوا في المرحلة الأخيرة في رفع منسوب «معنوياتهم» ضد الحزب التقدمي الاشتراكي، مستفيدين من غطاء العهد وباسيل، ومن الخلاف بين رئيس الاشتراكي وليد جنبلاط والأمير طلال أرسلان، ومستغلين بعض الأصوات المسيحية النشاز في الجبل والتضييق على جنبلاط حكومياً وإدارياً. لكن ردّ فعل مناصري الاشتراكي لا يمكن في المقابل أن يصبّ في خانة خلاف سياسي: إنه مشهد درزي مسيحي، تخطى بأميال كثيرة مصالحة البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، وحكمة من قاموا بها، بمن فيهم جنبلاط. وهذا أسوأ ما يحصل، قبل أن يسقط ضحيته مرافقان للوزير صالح الغريب، لأن المشكلة ستبقى أنها وقعت بسبب جولة باسيل، الزعيم المسيحي في عهد قوي وفي ظل جيش موالٍ للعهد. السؤال الذي يُطرح هنا هو: هل كنا سنشهد مشهداً مماثلاً، لو قام الحريري بالجولة نفسها، في عزّ خلافه مع جنبلاط، وبعدما بلغ التراشق الكلامي بينهما حداً غير مسبوق؟ هل كان سيقطع مناصرو جنبلاط الطرق أمام الحريري، وسيقومون بغيرها من الممارسات التي فعلوها في وجه باسيل؟
كان يمكن باسيل أن يتفادى الجولة، بعدما وصلته أصداء مقلقة، بصفته رجل العهد ومسؤولاً سياسياً. وهو غادر عاليه كما غادر قبلها مناطق أخرى. لكن المسيحيين العائدين إلى الجبل باقون فيه، ولكن بغير المشاعر السابقة، وهم لن ينسوا بسهولة ما حصل أمس، وكذلك الدروز. ولا يمكن تحويل الجبل مجدداً ثكنة عسكرية لفرض الأمن وإشعار الناس بالطمأنينة. الأمر يحتاج إلى تواضع وحكمة. وبلا قفازات، يمكن القول إن الأثر السياسي والأمني لسقوط درزي برصاص درزي، لا يشبه ما ينتج من سقوط مسيحي على يد درزي أو العكس. هل يمكن تخيل مشهد كهذا؟ وهنا تكمن مسؤولية جنبلاط وباسيل، لأن حشر جنبلاط في الزاوية ارتدّ في المكان الخطأ على «الطرف الأضعف»، أي المسيحيين، لا التيار الوطني وحده. لكن بالنسبة إلى باسيل، هذا الطرف لم يعد الأضعف. والمسؤولية تقع على عاتق الجيش الذي من صلب مهماته استباق الحدث وتطويقه قبل أن يحصل، وتقديم نصائح بتفادي المطبات في أوقات حرجة. الجميع أمس كان غائباً عن المسؤولية، لأن ما جرى ليس حادثاً فردياً، بل كان يحتاج إلى تدخل فوري لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء لفرض سلطة الدولة، إلا إذا كان الهدف الحقيقي إبقاء النار مشتعلة ودفع كل فريق طائفي إلى التعلق بزعيم طائفته. هذه النتيجة تحققت.