يستنزف حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أدواته، الواحدة تلو الأخرى، لجذب الدولارات من الخارج. هذه المرّة عينه على ما بقي من سيولة لدى المصارف في الخارج، المقدرة بنحو 6 مليارات دولار. يغريها عبر «هندساته» بأرباح يمكن تسجيلها فوراً في الميزانيات بدلاً من تحقيقها على 10 سنوات، بشرط أن تُضَخ هذه الأرباح في رؤوس أموالها. وهو في المقابل سيستفيد من هذه الدولارات في إعادة تكوين موجوداته من العملات الأجنبية التي استُنزفت خلال الأشهر الماضية بسبب ارتفاع الطلب على الدولار وانسحاب رؤوس أموال إلى الخارج. ولا تنحصر دواعي إصدار هذا التعميم بإعادة تكوين «الاحتياطات»، فما يقلق مصرف لبنان أن تخفض وكالة «ستاندر أند بورز» تصنيف لبنان السيادي إلى مستوى «الخردة»، ما يرتّب على المصارف ضخّ رساميل إضافية بقيمة 1.5 مليار دولار ستأكل أكثر من نصف أرباحها المتراجعة أصلاً، أو أن تستنكف عن المشاركة في الهندسة التي سينفذها مع وزارة المال لإقراض الدولة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1%… هذا التعميم بمثابة تعويض مسبق للمصارف، في مقابل إعادة تكوين الموجودات بالعملات الأجنبية.قبل يومين، وفي ظل الفراغ في المجلس المركزي بسبب عدم تعيين نواب حاكم مصرف لبنان حتى الآن، أصدر رياض سلامة التعميم الوسيط رقم 519، مقرراً الآتي: «يمكن المصارف والمؤسسات المالية تسجيل أرباح فورية على العمليات والهندسات المالية القائمة أو التي يمكنها القيام بها مع مصرف لبنان، شرط أن تكون هذه العمليات منفّذة بعد 2019/1/1، وأن يكون مصدر هذه الأموال الموظفة بهذه العمليات من أموال محولة لهذه الغاية من خارج أموالھا الموجودة لدى مصرف لبنان، أو من تلك الناتجة من عمليات قطع. ويسجّل الفائض الناتج من ھذه العمليات في بيان الأرباح والخسائر على أن يتم تحويله في نھاية السنة المالية إلى احتياطي عام غير قابل للتوزيع».
وفق مصرفيين، فإن هذا التعميم واضح، إلا أنّ تفسير خلفياته هو الأمر الأهم. فالمصارف تنفذ عمليات مالية مع مصرف لبنان منذ صيف عام 2016، إلا أنه في ذلك الوقت لم يسمح لها مصرف لبنان بتسجيل الأرباح الناتجة من هذه العمليات المسماة «هندسات»، بشكل فوري، بل فرض عليها أن تسجّل الأرباح في ميزانياتها تزامناً مع تحقيقها الفعلي. فإذا كانت الأدوات المالية التي تشتريها المصارف من مصرف لبنان تمتدّ على عشر سنوات بفائدة سنوية تبلغ 9%، فإن الأرباح المسموح بتسجيلها هي الفائدة المحصلة في نهاية كل سنة. أما التعميم الصادر اليوم، فهو يتيح للمصارف تسجيل كل الأرباح على كامل الفترة فوراً.
اشترط مصرف لبنان أن تحافظ المصارف على الأرباح الفورية من الهندسات الجارية حالياً ضمن «احتياطي عام غير قابل للتوزيع»، واشترط أيضاً ألّا تخضع الهندسات التي نفذت ما قبل أول كانون الثاني 2019 لهذه العملية، أي حصر الأمر بالعمليات التي تنفذ في السنة الجارية. كذلك اشترط أن تكون هذه العمليات ناتجة من أموال غير تلك الأموال التي أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان أو أن تكون ناتجة من عمليات قطع. بمعنى آخر، يشترط مصرف لبنان أن تطبق هذه العملية على الدولارات الجديدة التي تستقطبها المصارف، سواء عبر ودائع جديدة بالدولار، أو عبر سيولتها في الخارج، أو عبر شراء الدولارات من السوق. ويقول المصرفيون إن كمية الدولارات المتوافرة في السوق، التي لم توظّف بعد لدى مصرف لبنان قليلة نسبياً، فيما قدرة المصارف على جذب ودائع جديدة انحدرت إلى حدودها الدنيا، بدليل أن هناك مصارف أصدرت منتجات جديدة تدفع فوائد تصل إلى 13.3% على الودائع الجديدة بالدولار، ما يعني أن مصرف لبنان يستهدف السيولة التي توظّفها المصارف في الخارج، المقدرة بنحو 6 مليارات دولار.
الحصول على هذا المبلغ هو الهدف الذي يضعه مصرف لبنان نصب عينيه. وتحقيق الهدف يتطلب إغراءات أكثر جاذبية من الأرباح الدفترية التي تحققها المصارف من الهندسات. وبالتالي، إن السماح للمصارف بضخّ الأرباح فوراً في ميزانياتها أمر مغرٍ، وخصوصاً أن لبنان يقف على منعطف طريق مالي يتمثّل باحتمال خفض تصنيفه السيادي من وكالة ستاندر أند بورز، بعدما خفضت وكالة موديز تصنيفه قبل بضعة أشهر.
مصرف لبنان يستهدف سيولة المصارف في الخارج المقدَّرة بـ6 مليارات دولار


ومن تداعيات خفض التصنيف أنه بات يترتّب على المصارف أن تعيد توزيع محافظ التسليفات وتصنيف القروض المتعثّرة والخسائر بمستوى أشمل يرتّب عليها أن تقتطع من أرباحها ما يقدَّر بنحو 1.5 مليار دولار، أي أكثر من 65% من أرباحها في السنة الماضية.
ويأتي هذا الأمر في ظل توقعات بتراجع الأرباح في عام 2019، ما يشكّل ضغوطاً إضافية على المصارف التي تحتاج بشدّة إلى إبقاء مستويات أرباحها مرتفعة لإظهار قدرتها على الاستمرار في ظل الأزمة الحالية.
ليست هذه كل الخلفية لما سبق. فمن جهة ثانية، هناك مسألة تتعلق باتفاق بين مصرف لبنان ووزارة المال على إصدار سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1%. مصرف لبنان لا يمكنه وحده الاكتتاب بهذا المبلغ، ولا يمكنه إجبار المصارف على المشاركة مباشرةً، لأن وكالات التصنيف تعتبر هذه الخطة مشابهة لعملية إعادة هيكلة الدين العام التي تفسّرها ستاندر أند بورز على أنها تخلف عن سداد الديون. لذا، إن إغراء المصارف بهذه الخطوة مقابل مشاركتها في جانب من هذه العمليات بشكل غير مباشر عبر الهندسات المالية قد يعفيها من تصنيفات وكالات التصنيف ويمنحها تعويضاً يحفّزها على المشاركة.
في المقابل، يغطّي هذا التعميم حاجة أساسية لدى مصرف لبنان تتمثّل بتراجع موجوداته بالعملات الأجنبية إلى حدود «صعبة». يستدل على التراجع من خلال تقلص الودائع بنحو 1%، وعجز ميزان المدفوعات الذي سجّل 3.3 مليارات دولار في الأشهر الأربعة الأولى من السنة الجارية. كذلك، إن مصرف لبنان مضطر إلى أن يموّل استحقاقات الدولة بالعملات الأجنبية بقيمة تتجاوز ملياري دولار. وهو أصلاً موّل استحقاقات في مطلع هذه السنة بقيمة 1.1 مليار دولار وفوائدها (مجموعها يتجاوز ملياري دولار أيضاً).
كل هذه الأوضاع تنعكس ضغوطاً إضافية على موجودات مصرف لبنان، مضافاً إليها الطلب التجاري اليومي على الدولار لتمويل الواردات. لذا، إن الحلّ باستقطاب المزيد من الدولارات بأي طريقة.



نحاس: الوضع صار حرجاً جداً
يقول الوزير السابق شربل نحاس، إن تعميم رياض سلامة يدل على أن الوضع بات حرجاً جداً. يشبّه نحاس مصرف لبنان بأنه كازينو تربح منه الزبائن، أي المصارف، بشكل دائم. هي تحمل الدولارات من الخارج وتأتي لتلعب بها في الكازينو لتحقق أرباحاً عبر الأدوات المالية الصادرة عن مصرف لبنان أو «الهندسات» أو ما يمكن تشبيهه بـ«الفيَش». وهذا التعميم يعني أن الزبائن مستمرّون بالربح من الكازينو، لكن لم يعد مسموحاً لهم صرف «الفيش» على الصندوق، بل عليهم أن يبقوا الأرباح دفترية ولا يسمح لهم إلا بالاحتفاظ بها في رؤوس أموالها. «مبرر هذا التعميم، أنه لم يعد بالإمكان التفريط بالدولارات، لأن الحالة صعبة، ولأن الأوضاع القادمة ستكون أصعب».