لا حكومة قبل حلّ مشكلة الجبل والمجلس العدلي. ولا حلّ لمشكلة المجلس العدلي قبل معالجة جذور الخلاف السياسي ورسم خريطة واضحة لما جرى وأدوار المتورطين في الحادثة، ما قبلها وما بعدها. باختصار، التفاؤل المتداول عن إمكان إقناع أي طرف بالتنازل عن مطلبه لا يزال افتراضياً، لأن التهدئة ليست حتى كلامية، فيما «الواقع الخطر يستوجب معالجة توازي خطورته».بحسب مراجع أمنية بارزة، تتوزع معالجة مشكلة الجبل، أمنياً وسياسياً وقضائياً. لكن الخيوط الثلاثة متشابكة إلى درجة أنه لا يمكن الفصل بينها. ولهذا السبب، يمكن الكلام على مرحلة ما قبل الحادثة وبعدها أمنياً، على اعتبار أن الأجهزة الأمنية كانت قد حذرت بوضوح من الزيارة التي سيقوم بها الوزير جبران باسيل لعاليه، بسبب الأجواء التي سبقتها، حتى قبل كلام باسيل في الكحالة. في المقابل، وجهت رسالة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي بأن ما يقوم به ليس مسموحاً، كما ليس مسموحاً أن يشعر المسيحيون بأنهم مهددون، وأن هناك من يمنع حصول أي زيارة لمسؤول سياسي.
حصلت الزيارة، وجرى ما جرى. لكن مقاربة التدابير الأمنية التي اتُّخذت على الأرض تختلف عن بعض السائد، وهنا بدأت بعض الإشارات المقلقة. فأجواء المجلس الأعلى للدفاع كانت واضحة في طرح موضوع التدابير والإجراءات الأمنية التي لم تُثر ارتياحاً كبيراً لدى سياسيين معنيين وأجهزة مواكبة. لم يتطور دور الجيش إلى مرتبة قمع مسبق أو لاحق للوضع الميداني. التبريرات التي قدّمها قائد الجيش العماد جوزف عون في نقاشات المجلس الأعلى للدفاع طرحت تساؤلات، لأنها لم تكن مقنعة، بحسب بعض المشاركين في «الأعلى للدفاع». قال عون إن «ما جرى في عاليه نتيجة لأزمة سياسية، ويُحل بالسياسة، والجيش لا يمكنه التصرف في عاليه بالصورة نفسها التي تصرف بها في طرابلس ليلة الجريمة التي نفذها الإرهابي عبد الرحمن مبسوط. ففي عاصمة الشمال، كان الجيش يواجه إرهابياً، أما في عاليه، فإن تدخله من دون حل سياسي للأزمة سيضع المؤسسة العسكرية في مواجهة أهلها». مشاركون في الاجتماع يرون في جريمة البساتين اعتداءً بالجرم المشهود، بالتوصيف القانوني، بصرف النظر عن أي ملابسات سياسية. وكان يفترض بالجيش أن يبادر إلى القيام بخطوات عملانية وتدابير أمنية مشددة يومي السبت والأحد وما بعدهما. لكن ما جرى، أن الجيش أراد تحييد نفسه. وقف على الحياد في بعض الإشكالات، بحجة أن لا أوامر لديه، وأنه ليس طرفاً، وأنه لم يُستهدف، وأنه لا يريد أن يصطدم مع ناسه. البرودة التي جرى التعامل بها، ولا تزال مع الأحداث، تثير الالتباس والأسئلة لدى معنيين: هل القضية قضية رئاسة جمهورية، والانحياز العسكري إلى الحزب التقدمي الاشتراكي مردّه أن وليد جنبلاط ناخب أهم من الحزب الديموقراطي والأمير طلال أرسلان؟ علماً أنه بات معروفاً أن المسيحيين - على اختلاف انتماءاتهم - كما حصل في القاع لا يطمئنهم إلا وجود الجيش وحواجزه ودورياته. وهذا ما لم يحصل.
إبعاد الجيش عن المفاوضات جرى تحت حجة أن أرسلان أيضاً لا يحبّذ أي دور له


خلال نقاشات المجلس الأعلى للدفاع، تحدث المدير العام اللواء عباس إبراهيم، عن الأجواء المشحونة التي تنعكس على الناس، وأن لا ضرورة للقيام باستقصاء وتحريات ودوريات لمعرفة أن الناس شعروا بالخوف وتركوا بلداتهم في ذلك اليوم. حذّر إبراهيم من فتنة مسيحية - درزية، وأن أهمية تحرك الجيش تكمن في قدرته على «ردع عامل الخوف»، واقترح ضرورة القيام بخطة عسكرية مباشرة على الأقل لمدة شهرين في منطقة عاليه والشوف. ترك موضوع الخطة الأمنية للجيش، في عهدة رئيس الجمهورية، مع مراعاة عدم القدرة على سحب قوات خاصة من بعض المناطق لوضعها في الجبل. لكن الواضح أن الخطة الأمنية لم تتعدّ سوى نهار أمني نفذه الجيش في بعض المناطق البعيدة كيلومترات عن عاليه، ولم تشهد المنطقة رفعاً لمستوى التدابير المتخذة فيها سابقاً، كي تكون على مستوى الحدث، وسط شعور بأن لا مبالاة تحكم تصرفه حيال خطورة الوضع.
قضائياً، اتخذ القرار بأن توكل التحقيقات مع الموقفين في الحادثة إلى فرع المعلومات. تتحدث أوساط معنية عن أن الجيش لم يحبّذ إجراء التحقيقات لديه، في حين أن الأمن العام لم يمانع إجراء التحقيقات لديه، لكن تُرك الأمر في النهاية إلى فرع المعلومات. لكن الموضوع القضائي لا ينفصل عن المفاوضات السياسية التي بدأت بعد الحادثة وتولاها إبراهيم. واضحاً كان إبعاد الجيش عن المفاوضات، تحت حجة أن أرسلان أيضاً لا يحبذ أي دور له، وأن إبراهيم على صلة جيدة مع القوى المعنية.
بدأت الاتصالات مع الطرفين المعنيين لتسليم المتهمين. تجاوب جنبلاط كان سريعاً، وسلّم متهمين من اللائحة التي تسلمها، لكن تجاوب الديموقراطي كان مشروطاً بمعرفة مصير المفترض تسليمهم، أي هل سيُستمع إليهم كشهود أم سيوقَفون؟ وهذا أمر لا يستطيع أحد أن يعد به مسبقاً أو يكرّسه كسابقة قانونية، لأن القضية تتوقف على استجوابهم. فإما يُطلَقون أو يوقَفون بحسب إفاداتهم. مع العلم أن أرسلان يصرّ على أن مطلقي النار هم مرافقو وزير يدافعون عن أنفسهم ويطلقون النار وفقاً لضرورات الحماية فقط. والتحقيق لن يكتمل إلا بتسليم المطلوبين من جهة أرسلان والغريب، لأن الأجهزة الأمنية والقضاء المختص يحتاجان إلى شهود لرسم صورة واضحة لما حصل. ومن دون شهود من كل الأطراف، ليس هناك من قضية، حتى لو كانت بحجم الاعتداء على موكب وزير.
النقطة الثانية هي المجلس العدلي وتمسك أرسلان به، مقابل رفض جنبلاط له. لكن السؤال الذي يُطرح هنا هو عن الجهة التي طرحت فكرة المجلس العدلي أساساً، فباتت اختباراً حقيقياً للنيات ولرسم مستقبل العلاقات بين القوى المعنية بالحادثة، واستطراداً وضع الحكومة. فالقرار «العلني» الذي صدر في مقررات المجلس الأعلى للدفاع، تحدث عن إحالة الموقوفين على القضاء وإجراء التحقيقات تحت إشراف القضاء المختص، من دون تسمية المجلس العدلي. فكيف تطور النقاش إلى هذه النقطة، وبات المجلس العدلي مطلباً فوق كل المطالب؟
التحدي الحقيقي بوضع المجلس العدلي في المرتبة الأولى، بما يتقدم على الحكومة، أمر خطر في حدّ ذاته، لأن المشكلة انتقلت من حادثة أمنية - سياسية إلى معضلة حكومية يمكن أن تفجر الوضع الداخلي، خلافاً لكل الطمأنات التي يحاول مسؤولون إعطاءها. فالاستقرار عنوانه الأمن، ومن المفيد الاعتراف بأن الأمن اهتزّ. انتقال الرئيس نبيه بري إلى قصر بعبدا، وهو المُقِلّ في زيارته، يعني استشعاراً حقيقياً للخطر، وهو يتلاقى مع مفاوضين لحل الأزمة الحكومة، على أن استسهال تحدي جنبلاط يتعداه إلى الحريري، لأن الأخير - ولا سيما بعد جلسات الساعات الخمس الفاشلة مع باسيل - لا يمكن أن يوافق على إحالة القضية على المجلس العدلي. وإذا كان جنبلاط يتحدث علانية عن استهداف سياسي يشبه استهداف القوات اللبنانية في التسعينيات، فإن الحريري أيضاً لا يريد أن يسجل سابقة، قد تتكرر مع غير جنبلاط، فيما يشعر بأن ما حصل الآن يؤلب الشارع السني عليه مجدداً، لأن جنبلاط حالياً يحصد رضى جزء لا بأس به من معارضي الحريري في الشارع والطبقة السياسية السنية.

قائد الجيش: تدخلنا في عاليه، من دون حلّ سياسي، كان سيضعنا في مواجهة أهلنا


ثمة قطبة خفيّة تكمن في الإصرار على المجلس العدلي، تحت غطاء القانون ووصف ما حصل بأنه اعتداء على الدولة وهيبتها، وفريق سياسي يراها كذلك، من دون الأخذ بالاعتبار كل ظروف الحادثة وخلفياتها وارتداداتها المستقبلية. والتحدي أمام العهد الذي يحاول مع حلفائه احتساب أصوات المعارضين للاقتراح ومؤيديه، يكمن في إمكان سقوط اقتراح المجلس العدلي في مجلس الوزراء. وأي اختبار من هذا النوع، يعني تفوقاً جنبلاطياً لن يمرّ بسهولة على خصومه وعلى العهد تحديداً.
يقول مرجع أمني أن لا أمن من دون سياسة، وتحديداً في هذا الملف. من هنا، نشطت الاتصالات السياسية بكثافة، لكنها لم تصل إلا إلى تهدئة ظرفية. مخطئ من يعتقد أنّ الأزمة انتهت، وأنّ الوضع ليس حساساً، بل خطر. وخطورة الوضع، بحسب المعنيين، تتعلق بالتطورات الإقليمية والضغوط المالية، وآخر إشاراتها أمس مع قرار الخزانة الأميركية فرض عقوبات على مسؤولين من حزب الله، بينهم نائبان. وثمة خوف من أي هزّة مالية، وحتى استغلال أي طرف خارجي، إسرائيلي أو حتى غيره، اللعب بالنار في الجبل، ما يؤجج الفتنة. فهل يمكن تخيّل سيناريو أمني مقلق في منطقة حساسة غير ممسوكة أمنياً؟ هذا الخوف يستدعي مراعاة سياسية للوضع، وتعالياً عن كل الحساسيات الراهنة من أجل الوصول إلى حل.