مساء الخميس الفائت تحدث رئيس مجلس النواب نبيه برّي، أمام زواره، عن أن انعقاد مجلس الوزراء، إلى حد أقصى الخميس المقبل، واجب بغية تصديق البرلمان على مشروع قانون الموازنة، بسبب إلزام دستوري يقضي بالتصديق أولاً على مشروع قانون قطع الحساب. أضاف أمامهم أن قطع الحساب ملزم إقراره أيضاً في مجلس الوزراء، لكونه مشروع قانون، ومن ثم يصير إلى إرساله بمرسوم إحالة على مجلس النواب. مرسوم الإحالة بلا إقرار في مجلس الوزراء ينتقص من دستورية هذا الإجراء، ويبقي الموازنة معلقة.بذلك، بات حتمياً التئام مجلس وزراء منقسم في الأصل، في قاعة انعقاده وخارجها، على نفسه كجزء لا يتجزأ من النزاع الذي سببته حادثة قبرشمون في 30 حزيران. مع ذلك، لا احتمال لالتئام ما بين الاثنين، عشية جلسة مناقشة موازنة 2019 والخميس آخر أيامها.
ما أفضى إليه اجتماع رئيس الحكومة سعد الحريري برئيس الجمهورية ميشال عون أمس، أن لا مجلس وزراء قريباً قبل اتفاق الأفرقاء المعنيين على سبل معالجة حادثة قبرشمون، وعلى الأثر يصير إلى تكريس هذا الاتفاق في الجلسة. لا يضير رئيس الجمهورية تأخير جلسة مجلس الوزراء، آخذاً في الاعتبار أولوية الاستقرار الأمني على ما عداه، وعلى انعقاد جلسة مرشحة للانفجار. بدوره الحريري يشاركه الهاجس نفسه.
تزامن تعطيل المجلس مذذاك مع أقاويل شتى في الأيام المنصرمة، أوحت بأزمة حكومية وشيكة، منها إسقاط الحكومة أو استقالة وزراء، وبدا جلياً من تتبع وقائع ما بعد تأجيل جلسة 2 تموز، أن حادثة قبرشمون التي بدأت في الشارع أمكن سريعاً استيعاب تداعياتها الأمنية، وتحوّلت سريعاً أيضاً إلى مشكلة سياسية في مجلس الوزراء، كي تتفرع منها أزمات أخرى. لم يعد الاحتكام إلى الشارع، وبرّد قليلاً النزاع الدرزي - الدرزي، وأُهمِلَ إلى حدٍّ كبير النزاع بين الوزير جبران باسيل والنائب السابق وليد جنبلاط الذي نجم عن جولة وزير الخارجية إلى الجبل. ثم أتت سريعاً خطوة باسيل جمع وزراء تكتله الـ11 في وزارة الخارجية وتعطيل جلسة مجلس الوزراء، وإن اكتمل نصابها لاحقاً، كي تُفسّر بأن الرجل يلوّح بقدرته على استخدام الثلث+1 الذي يحتفظ به منفرداً. فيما بعد بسّط فريقه مغزى هذا التصرّف، وقلّل من أهمية أن يكون موجهاً إلى رئيس الحكومة بالذات. الحجة المعلنة ليست سوى إشارة تضامن مع الوزير الأرسلاني صالح الغريب من الكتلة الوزارية الأكبر في السلطة الإجرائية التي تمسك بدورها - شأن الصلاحية الدستورية للحريري - بمفتاح إسقاط الحكومة. ما إن جيء على ذكر الثلث+1، قيل مجدداً إن تسوية 2016 انهارت أو أوشكت، على غرار آخر ترويج لهذا الانهيار قبل نحو شهر.
لكن مسار السجالات منذ 2 حزيران أفسح في المجال أمام بضع ملاحظات كافية كي تثبّت استقرار الحكومة والتسوية الأم:
أُولاها، رغم أن باسيل يمسك، كتكتل وزاري واحد، بالثلث+1 من أعضاء الحكومة، إلا أن ثمة ثلثاً+1 آخر معارضاً له تتجمع فيه كتل متضافرة تجمع فيما بينها خصومته، هي خليط عجيب من قوى 8 و14 آذار. بيد أن ائتلافها غير المعلن مهيّأ في أي حين لأن يصبح فريقاً واحداً داخل مجلس الوزراء. بينهم مَن اقترع لرئيس الجمهورية ومَن صوّت ضده. هم وزراء بري وجنبلاط وحزب القوات اللبنانية والرئيس نجيب ميقاتي والمردة. إلى الآن، لم يُطل هذا التكتل العريض برأسه.
على أن الخوض في إحالة حادثة قبرشمون على المجلس العدلي، أتاح التحدث عن فريقين كبيرين في الحكومة على طرفي نقيض بإزاء مسألة أضحت مثار انقسام جدي. أضف أن رئيس الحكومة يبحث عن مخرج يجنّبه التصويت على قرار كهذا في مجلس الوزراء. مع ذلك، فإن المطلعين على مبادرة المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، يشيرون إلى أن الإحالة على المجلس العدلي حتمية، وفي صلبها.
ثانيتها، أياً تكن التباينات غير الجسيمة، غير الخفية خصوصاً، بين الأفرقاء الثلاثة صانعي تسوية 2016، إلا أنهم يشكلون في الواقع قوة الموالاة في الحكومة الحالية. ذلك ما يصح على وزراء باسيل الـ11 ووزراء الحريري الخمسة والوزراء الثلاثة لحزب الله. في الحصيلة، يشكلون تقريباً ثلثي نصابها، خصوصاً أن القاسم المشترك فيما بينهم توفير أوسع استقرار سياسي وأمني للتسوية تلك، رغم التناقض الشائع - المهادن على الدوام - بين الحريري وحزب الله.
لباسيل ثلث+1، لكن لخصومه المتجمعين ضده ثلث+1 أيضاً


ثالثتها، مع أن هذا التوزيع الحكومي بالكاد يُرى، نظراً إلى أن السلطة الإجرائية الحالية تختبر حالاً سبق أن عرفتها حكومات عدة في الحقبة السورية (1992 - 2005)، إبان ولايتي الرئيسين إلياس هراوي وإميل لحود، إذ تألفت حكومات موالية برمتها لدمشق التي أمسكت بثلثي نصابها على الأقل، وجمعت حلفاءها من مشارب مختلفة، لم يكن من الصعوبة بمكان إبصار التناقضات داخل حكومة الموالاة حينما راح وزراء يعارضون آخرين، وإن هم جميعاً في صحن واحد. في الغالب، تتنافر مواقفهم في ملفات داخلية، لكن من غير التعرض لرئيس الجمهورية. أحياناً تُصوّب السهام إلى رئيس الحكومة، لكنها في معظمها ترتبط على الدوام بتقاسم الحصص. حينذاك، أولئك المشاركون في الحقبة السورية استظلوا شعاراً وهمياً هو اتفاق الطائف.
قد لا يبدو الفارق كبيراً مع حكومتي العهد الحالي، المنبثقتين من تسوية 2016، وإن بدا ثمة اختلاف جوهري نجم عن مغادرة عرّاب سلطة الطائف الملعب اللبناني. قلّما نعثر في مواقف مَن يُعدّون معارضين للتسوية، وأحياناً لرئيس الجمهورية، تصويباً للسهام إليه. رئيس المجلس الذي لم يُصوّت له واختلف بعمق وحدّة أيضاً مع الوزير الصهر، ظل على تواصل وتشاور مع عون. كذلك النائب السابق سليمان فرنجية الذي يحمّل الرئيس إفقاده فرصة الحلول محله وخصومته المتشددة مع الوزير الصهر، لم تجعله يتخلى يوماً عن القول باحتكامه إلى رئيس الدولة. بدوره حزب القوات اللبنانية لم يفقد ثقته بالمصالحة مع عون، مع كل ما يشكو من باسيل.
على نحو كهذا، تبدو حكومة الحريري، على وفرة تناقضات ظرفية تتنقل ما بين أفرقائها، صلبة مقدار صلابة تسوية 2016 التي أعطت أكثر من برهان على أنها هي التي تمثل «العهد».
أما ما جرى في قبرشمون، في حسبان صانعي التسوية، فهو أحد فصولها الكثيرة منذ مطلع الولاية. لكنه أيضاً أحد استحقاقاتها وفواتيرها.