قد يكون هذا من المشاهد الأخيرة لـ«سوق الأحد» قبل انتقاله إلى الكرنتينا نهاية الشهر الجاري على الارجح. من فوق الجسر، تبدو الشوادر البيضاء رقعةً واحدة تحمي الباعة من الشمس. تحت الجسر، يصبح مفهوم «الحماية» مختلفاً، إذ يقترن بقرارات ستتّخذ «من فوق».قبل الوصول إلى السوق من ناحية سن الفيل، على الرصيف المخرّب المطلّ على نهر بيروت، يجلس عجوز على سجادة فلش عليها أدوات خردة وبيده شمسيّة حمراء يتفيّأ تحتها. يقاوم بجلوسه رائحة المجارير التي تصبّ من قساطل كبيرة في «النهر». تحت الجسر تماماً، قبيل المدخل الرئيسي، «يستقبل» بائع «اليانصيب» الزوّار، تحت «آرمة» كبيرة ثابتة: «السوق الشعبي الكبير يرحّب بكم»، مظلّلةً بالأعلام اللبنانية التي انتشرت أخيراً على كامل سور السوق. قبل أسابيع، لم تكن «الآرمة» وحيدة. أضيفت إليها لافتات تصرّ على أن «سوق الأحد باقٍ.. باقٍ.. باقٍ» و«نرفع القبّعة لنزاهة قضائنا لذا دعوا الأمر له بعيداً عن الحسابات الوضيعة»... أزيلت اللافتات أخيراً، وبقيت الآرمة. أما بقاء السوق فليس محسوماً. المحسوم هو رأي الباعة الرافض لـ«النقلة».
يسرد هؤلاء حكاياهم ويعدّون سنوات قضوها هنا. الانتقال إلى الكرنتينا ليس سؤالاً مرحّباً به. بائع السُبحات يعرض بضاعته منذ 20 عاماً على بسطة «منحني إياها صاحب الأرض ببلاش، بسبب وضعي الصحيّ». وضع يزيده مرض الرئتين بلّةً، «تقاعدت عن العمل في إحدى الجمعيّات بسبب رئتي، ولا مصدر رزق لديّ سوى هذه البسطة. أخشى على رئتي من الانتقال إلى الكرنتينا حيث تنتشر روائح سوق السمك والمسلخ والنفايات... لا، لن أنزل!». ورائحة نهر بيروت؟ يجيب: «هون غير شي، النهر بعيد عنا، تحت الروائح قاتلة».
(مروان طحطح)

إلى السبحات والأيقونات، تعرض البسطات كلّ شيء: ألبسة، أحذية، أكسسوارات هواتف، كتب، منظفات منزليّة، ألعاب أطفال، عطور، خردوات، بالة، نحاسيّات، طيور، مأكولات... أقراص مدمجة «السي دي بـ1500 ليرة»، وقمصان «من 7 آلاف ليرة وطلوع»، و«أي ساعة على الطاولة بخمسة آلاف». طيور الحبّ، طيور الجنّة، كنار، حسّون، «حسب الحبّة... فرخ الكنار بعشرين ألف ليرة».
البائعون السوريون هم الأكثر حذراً. بالتحدّث إليهم يصبح الجميع «عمالاً لا أصحاب بسطات». رغم ذلك، فإن عددهم قليل قياساً بالفكرة السائدة عن أنهم الوحيدون الموجودون في السوق. يخشى هؤلاء الانتقال إلى الكرنتينا لأن «السوق هناك تابع للدولة، لن نستطيع العمل فيه لأننا غير لبنانيين ونحتاج إلى إجازات عمل»، يقول بائع أكسسوارات الهواتف المحمولة. يضيف «لا يمكنني العمل خارج هذا المكان، آتي من البقاع للعمل فيه، أدفع مئة ألف ليرة إيجار البسطة أسبوعياً لإعالة ولدي».
رفض الانتقال إلى الكرنتينا، لا يرتبط فقط بجنسيّة العاملين وبيئة المكان المقترح، بل أيضاً بذكريات وسنوات طويلة تصل إلى الأربعين، قضاها بعض البائعين هنا، حتى «قبل أن يصير السوق سوقاً».
عدنان، بائع الألبسة، موجود هنا منذ «عشرين، ثلاثين سنة». يؤكد أن الحديث «عن بضاعة مسروقة، وبيع مخدرات... إِشاعات مُغرضة». ابن الخندق الغميق يواظب على فلش بسطة الملابس يوم الجمعة من كل أسبوع، «لنبدأ العمل من صباح السبت إلى مساء الأحد». يؤكد: «الفواتير معنا، نشتري بضاعتنا من تجار الجملة في سوق عفيف الطيبي (الطريق الجديدة)». يعدّد أسماء الماركات العالميّة المطبوعة على الجينزات فخوراً، «نحن لا نحتلّ المكان، بل نعمل فيه، أدفع نحو 50 دولاراً إيجار البسطة، أبيع الجينز بنحو 35 ألف ليرة والجاكيت الجلد بخمسين ألفاً». ويشدد على أن «العاملين هنا غالبيّتهم لبنانيّون وعدد قليل من السوريين. إذا كانوا يريدون إزاحتهم فليحلّوا الموضوع معهم بدل نقلنا جميعاً إلى الكرنتينا»... تحت «لا يمكن البقاء أكثر من نصف ساعة، بفعل رائحة السمك واللحوم والنفايات».
جزء من المشكل أنهم «مفكرينّا كلنا إسلام وما بدن نشتغل هون»!


أبو محمد، بائع أحذية البالة، لديه بسطة في سوق بعلبك الشعبيّة. «أنزل إلى هنا كل نهاية أسبوع منذ ثلاثين سنة». وهو «معروف» في السوق لأن بضاعته «كْريم البالة... أي أكثر من باب أوّل، أختارها بالحبّة»، ومع ذلك «ما عادت توفّي مثل الأوّل، لكن مستورة!». بالنسبة إليه «حرام يتسكّر السوق! العائلات التي لا تودّ التبذير على الملابس تزورنا، حتى المقتدرة منها».
من الشمال، يأتي محمد أسبوعياً ليبيع الألبسة في سوق الأحد، إذ «لا سوق مماثلاً في طرابلس. ليس لدي عمل آخر في باقي أيام الأسبوع، الغني يقصد هذه السوق قبل الفقير». أما بالنسبة إلى الكرنتينا، فقد «نزلنا وشفنا. رائحة وميكروبات ولا مواقف للسيارات، قيل إن إيجار المتر المربّع هناك يبلغ 20 ألف ليرة بالشهر... بينما أدفع هنا مئة ألف مقطوعة».
بائع البياضات المنزلية، أحد «العتاق» في السوق، يقول: «من سنة 1988 أنا هنا، قبل ما السوق كانت سوق، يومها كانت شرقيّة - غربيّة. رغم ذلك كنا نركن سياراتنا تحت الجسر مساء الخميس ونفتحها ونبيع حتى مساء الأحد، وقتها كان الشغل إلو عزّ». حالياً، يرتّب ابن صيدا «الحرامات والكوفروليه» في بسطته الواسعة استعداداً لبيعها، بدءاً من «35 ألفاً وصولاً إلى 110 آلاف، كل شيء له سعر». العمل في السوق «أوفر من افتتاح محل، أدفع خمسين ألف ليرة لاستئجار البسطة أسبوعياً» يقول، رافضاً فكرة الانتقال إلى سوق آخر «أين؟ في الكرنتينا! بدك روح موت، ما بدي إنزل شوف، رزقتنا هون وباقيين هون».

(مروان طحطح)

التنوّع المناطقي الذي ينفرد به السوق، ينسحب على التنوّع في أعمار الباعة. سهيل ابن العشرين عاماً طالب في الجامعة، «بحثت عن عمل أو تدريب في اختصاصي، حتى من دون مقابل ماديّ، ولم أجد. لذا قررت تسلّم بسطة يملكها عمي». ماريو الثلاثيني تسلّم البسطة قبل سنتين، «بعد وفاة والدي الذي عمل فيها لأكثر من عشرين سنة». يبيع ماريو الخردوات والعدّة الكهربائيّة، «صيني، وألماني وسويدي... تختلف البضاعة التي نكسر من سعرها قليلاً مقارنة بمحل أملكه في الخارج». عمله في سوق الأحد يشكّل «إكسترا موني»، أما تغيير مكانه «فليس لصالحنا، خاصة أن السوق هنا مقصود وزبائني يعرفونني والمكان نضيف، موقع السوق في الكرنتينا لا يناسبنا بسبب التلوّث والنفايات وبُعده عن الطريق العام».
«سوق الأحد هو المساحة الوحيدة التي تجمع الطوائف كلّها!». يقول حيدر الذي يأتي من النبطية ليبيع العصافير والألبسة. لديه محل في الجنوب وبسطتان هنا، «منذ 24 سنة أعمل في هذه السوق، أستأجر البسطة الواحدة بنحو 90 ألفاً، فحركة الشغل في السوق أكبر وهناك سيّاح أيضاً». حيدر اختبر العمل في مؤسسة الأسواق الاستهلاكيّة في الكرنتينا، «مش منيحة، بقيت هناك لشهرين، أكل العفن بضاعتي».
يتعلّق البائعون هنا بحبال الهواء من أجل البقاء. يشدّدون كثيراً على «التنوع الطائفي»، عسى أن يغيّر ذلك شيئاً في رأي من يسعون حثيثاً لإزالة السوق. يحثّ حيدر زميله بولس على التصريح، مشيراً إلى أن الأخير «مسيحي من الحدت». سهيل وماريو «أيضاً مسيحيان». الإشارة إلى الطائفة مهمة، برأي هؤلاء، «لأن جزءاً من المشكل أنهم مفكرينّا كلنا إسلام وما بدن نشتغل هون»!


9330 متراً مربعاً
هي مساحة العقار الذي استردته الدولة اللبنانية ويقوم «سوق الأحد» على جزء منه. النزاع القضائي حول العقار استمرّ سنوات طويلة، وأنهته محكمة التمييز بقرارها رقم 52/2018، بقبولها في الشكل والأساس الاستدعاء التمييزي من الدولة اللبنانية ضدّ بلدية سن الفيل طعناً بقرار الاستئناف (رقم 888/2016)، بأنّ «العقار المعطى رقم 2505 سنّ الفيل، الواقع على ضفّة نهر بيروت، داخل محافظة بيروت الإداريّة، يدخل ضمن الأملاك العامّة النهريّة التابعة للدولة اللبنانية».