الحوار الذي دعا اليه وزير البيئة فادي جريصاتي اليوم يفترض أن يناقش سبل تمويل «خارطة الطريق لمعالجة النفايات» عبر مشروع قانون أعدّته الوزارة حول الاحكام المالية الانتقالية العائدة لقانون الادارة المتكاملة للنفايات الصلبة (القانون رقم 80 بتاريخ 10/10/2018). إذ تقترح في المادة الاwولى منه - لحل مشكلة ديون البلديات - تقسيط قيمة عقود ادارة النفايات (منذ عام 1997)، وفرض رسوم لتمويل ادارة النفايات، بعضها مباشر يعود للادارات المحلية لتغطية كلفة الجمع والنقل، وأخرى غير مباشرة تذهب الى الخزينة لتغطية كلفة المعالجة، ورسوم على المنتجات المستوردة التي تتحوّل نفايات بعد استخدامها (وهذه تحتاج الى توسيع وتفصيل)، وانشاء نظام ضرائبي (لم تتحدد معالمه بعد) حول مسؤولية المنتج، إضافة الى مادة حول «الرسوم التحفيزية للسلطة المحلية» التي يقع على عاتقها تأمين البنى التحتية اللازمة (حاويات وتجهيزات) لتفعيل الفرز من المصدر، على أن تفرض رسماً استثنائياً (بلدياً) على المنشآت ضمن نطاقها، يميز بين الوحدات السكنية والمؤسسات التجارية والمكاتب والمستشفيات ودور العبادة والمدارس والجامعات والمطاعم والفنادق والمنتجعات والمصانع.
التخفيف أولاً
بداية، يمكن الجزم بأن القانون المقترح يعمّق المشكلة بدل أن يساهم في معالجتها. ففكرة «استرداد كلفة المعالجة» لا تنسجم مع الرؤية الاستراتيجية ولا مع مسودة الاستراتيجية الوطنية للادارة المتكاملة للنفايات الصلبة التي تناقشها وزارة البيئة الآن، والتي أعطت مبدأ «التخفيف» أولوية مطلقة. ففكرة التمويل لاسترداد الكلفة وضعها كبار المستثمرين في القطاع وترجمها بعض خبراء وزارة البيئة، إما تواطؤاً او بسبب قلّة دراية. إذ أنها تخدم من يستثمر في محرقة او معمل او مطمر ليسترد كلفة الانشاء والتشغيل، فيما يفترض بالضريبة أن تخدم الفرد غير المستهلك او القليل الاستهلاك. ففي فلسفة الإدارة البيئية للنفايات، يجب أن تطال الضريبة (التي لا تعتبر جباية) المنتج او المصنّع أولاً، والتاجر ثانياً، والمستهلك أخيراً، لأن هدفها تخفيف حجم النفايات، وفي الوقت نفسه تصحيح المسار الخاطئ في التصنيع والتجارة... على أن تكون تصاعدية وبحسب حجم الاستهلاك وإنتاج النفايات. فالضريبة أولاً على المصنّع الذي لا يسعّر بحسب توفر الموارد ومدى تجدّدها ومعالجة أثرها البيئي اثناء التصنيع وتحمّل مسؤولية اعادة تصنيعها بعد أن تصبح نفايات. وثانياً على التاجر الذي لا يهتم لنوع المادة التي يسوّق لها ومواصفاتها وأثرها البيئي بقدر ما يهتم بالربح السريع. أما المستهلك، فهو يتحمل مسؤولية اختيار الانواع اولا، ويفترض أن تكون الضريبة او الرسم الذي يدفعه على الحجم او الوزن. بمعنى آخر: من ينتج نفايات أكثر يدفع أكثر.
أما على أرض الواقع، فإن تمويل إدارة النفايات يتم حالياً بأسوأ الطرق. إذ تُقتطع الكلفة من الصندوق البلدي المستقل او من الخزينة، وتحاسب الشركات الملتزمة على الطن. وهي ضريبة غير عادلة يتساوى فيها منزل يسكنه شخص واحد وينتج اقل من كيلوغرام واحد من النفايات يومياً مع فندق ينتج مئة كيلوغرام! الضريبة، هنا، لمصلحة من ينتج النفايات ومن يستثمر في التخلص منها. فيما ينبغي أن يكون هدفها الأساس «التخفيف»، عبر دفع المصنّع الى تعديل طريقة التصنيع والتعاون مع البلديات على الفرز، على أن يدفع المواطن مقابل جمع النفايات العضوية والخطرة من منزله، ويتقاضى ثمناً للنفايات القابلة لإعادة التصنيع بعد أن يفرزها.

المطلوب من البلديات
في هذه الحال، ماذا يفترض أن تطلب وزارة البيئة من البلديات؟
قبل الإجابة، يجب أولاً تحديد مما تتكون النفايات الصلبة؟ ولماذا «الصلبة» فقط، كما ورد في الاستراتيجية والقانون؟
بحسب مسودة الاستراتيجية «يُقصد بالنفايات الصلبة النفايات التي تحتوي على مكوّنات صلبة أو سائلة أو غازية، والتي ينتجها أي مصدر (منزلياً أو غير منزلي)، وقد تحتوي على خصائص خطرة أو غير خطرة. باستثناء النفايات المشعة أو الإنبعاثات الغازية أو مياه الصرف الصحي». واذا ما تغاضينا عن عدم صوابية استثناء النفايات السائلة، يبقى الغموض محيطاً بكيفية تصنيف النفايات الصلبة، وكيفية الفصل بين النفايات المنزلية وبين تلك التجارية والصناعية (بما فيها نفايات التعبئة والتغليف والنفايات القابلة للتحلّل الحيوي)، والنفايات الناجمة عن أعمال البناء والهدم والتأهيل، ونفايات المعدات الالكترونية والكهربائية والبطاريات والإطارات المستعملة والزيوت، والوحول الناتجة عن محطات معالجة مياه الصرف الصحّي. ناهيك عن النفايات الصناعية غير الخطرة (كتصنيع الأغذية) والخطرة (كالمبيدات الحشرية) والوحول المنزلية والصناعية، وتلك التي تحتوي على معادن ثقيلة (صناعة المعادن والورق...)، والنفايات الكيميائية وتلك الناتجة عن الدباغات والدهانات والأصباغ والمواد الكيميائية المنتهية الصلاحية والأدوية والنفايات الطبية، والرماد (الناتج عن المحارق أو محطّات توليد الطاقة)… اضافة الى التلوث النفطي (غير المدرج في خارطة الطريق ولا في الاستراتيجية) الناجم أساساً عن تسرب مشتقات نفطية اثناء تفريغ حمولات البواخر على الشاطئ لمعامل الطاقة الحرارية والمصانع، مع توقع زيادة حجم هذا النوع من النفايات بعد بدء التنقيب عن النفط والغاز.
مشروع قانون تمويل إدارة النفايات يتناقض ومبدأ «التخفيف» الذي تستند اليه استراتيجية الوزارة


فأين مسؤولية البلديات في كل تلك الانواع من النفايات، وما هو المطلوب منها لانجاح عمليات التخزين او الفصل والمعالجة؟
طوال الفترة السابقة، انحصرت مطالب «المتعهد الاكبر»، مجلس الانماء والاعمار، ووزارة البيئة من البلديات باختيار أماكن للمعالجة، اي مواقع لإنشاء مطامر (يطمر فيها كل أنواع النفايات) ومعامل للفرز والتخمير. وقد بات جلياً أن هذه المعامل لم تكن ناجحة، لذلك كان القسم الأكبر من النفايات (بكل أنواعها) يذهب الى مكبات عشوائية وصل عددها بحسب آخر دراسة أُجريت عام 2016 الى 941 مكباً.
ليس مقبولا بالتأكيد الإبقاء على حال المكبات العشوائية، وبالتالي. تبقى المطامر المنظمة حلاً أفضل. وهنا تأتي اهمية أن تحدد وزارة البيئة مواقع مطامر في المناطق بعد الدرس، وقد اختارت هذه المواقع في خارطة الطريق التي تناقش حاليا في اللجنة الوزارية ومع اتحادات البلديات اليوم كما يفترض… الا أن المشكلة، هنا، ستبقى هي نفسها لناحية سرعة امتلاء هذه المطامر اذا لم تطبّق مبادئ التخفيف والفرز والإدارة الخاصة لبعض أنواع النفايات. وهذا ما يفترض مناقشته مع اتحاد البلديات، ولكن بعد التشاور مع المصنّعين والتجار والوكلاء التجاريين حول النوعية والاسعار وكيفية استرداد هذه المنتجات عندما تستهلك وتتحول الى نفايات. إذ أن كثيراً من السلع، لا سيما الخطر منها، يفترض أن تعود الى الوكيل فالتاجر (المستورد) فالمصنّع الأساسي او التحويلي. وهنا يمكن أن تلعب البلديات دور الوسيط الذي يضبط عمليات الجمع (في حاويات او مراكز) تمهيدا للترحيل والاسترداد. وهذا ما يفترض أن ينطبق خصوصا على الالكترونيات والادوات الكهربائية والبطاريات والسيارات والادوية الطبية والزراعية وغيرها الكثير من الكيميائيات والبلاستيكيات...
كما يفترض أن يطلب من البلديات تحديد أماكن لجمع الردميات، بعد تستنفد وزارة البيئة كل الإجراءات المطلوبة لتنظيم المقالع والكسارات وتدرج في خططها التنظيمية لهذا القطاع امكانية اعادة طحن مخلفات البناء واستخدامها. وإلا لا معنى لجمع بلديات عاجزة والطلب منها تأمين أماكن للمعالجة قبل أن تكتمل الصورة الأشمل للمعالجة.