أن يطرح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في رسالته إلى رئيس المجلس النيابي قراءة مجلسية للمادة 95 من الدستور، فذلك يتعدى حق رئيس الجمهورية في توجيه رسائل إلى المجلس النيابي عملاً بصلاحياته، أو الحق بطرح نص دستوري ما للنقاش والتفسير. لأنه لا يمكن تخطي توقيت الرسالة ومضمونها بعد الشحن الطائفي الأخير على أكثر من جبهة سياسية، والجو السياسي المتوتر بعد وقف جلسات مجلس الوزراء وتعطيل صلاحيات رئيس الحكومة. علماً أن المادة 95 تحمل في جوهرها شقين أساسيين: واحد يتعلق بالهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، والثاني المتعلق بالتمثيل الطائفي في الوظائف. ورغم أن رسالة عون تناولت الشق الثاني تفصيلاً، وربطها ببند المادة 80 من الموازنة، إلا أنه لا يمكن الفصل بينهما.منذ اجتماعات جنيف ولوزان، وجوهر المادة 95 مطروح للبحث. وما أقره الطائف خضع أيضاً لنقاش في جلسات مجلس النواب إبان إقرار تعديلات على الدستور عام 1990. في إحدى تلك الجلسات، علّل النائب بطرس حرب، الذي شارك في نقاشات الطائف، أهداف القسم الثاني من المادة المذكورة وإضافة عبارة مقتضيات الوفاق الوطني، «تفادياً لإشكالات»، إلى نص المادة من ضمن «توجه عام لإلغاء الطائفية من النفوس لنتمكن من إلغائها في النصوص»، وفق خطة مرحلية تضعها الهيئة الوطنية. وضعت «هذه العبارة، وحتى لا نقع في مشكلة فيما بعد وفي انتظار تطور النفوس». وقال: «إننا كنا نخشى أنه في بعض الميادين أن يصير تحويل للدولة، من فكرة التوازن القائمة فيه الدولة في مجتمعنا، إلى فكرة يمكن بالنتيجة أن تؤدي إلى تغيير في وجه بعض مؤسسات الدولة. وقلنا ليس لنا مصلحة أن نتركها نهائياً، إنما نترك للمسؤولين حق التقدير الاستنسابي الذي تفرضه مقتضيات الوفاق الوطني حتى يحولوا دون تحويل بعض المؤسسات أو بعض الإدارات إلى طابع ذات فئة معينة يطيح هذا الوجه المتميز للشعب اللبناني». فيما أعاد التذكير بالفقرة «ي» من الدستور، مشدداً على أهمية العيش المشترك، واتفاق الطائف لتجاوز الانقسامات الطائفية لنقل الدولة من دولة الأشخاص إلى دولة المؤسسات.
هذا الشرح لأحد المشاركين المستقلين في نقاشات الطائف، يعود نفسه إلى الواجهة اليوم، ولكن من باب مختلف، يتعدى فكرة تكريس العيش المشترك، لأنه يأتي في لحظة منطلقها سياسي - حزبي بحت، ولكن يظلّلها موقف رئاسة الجمهورية المتضامن مع موقف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في إعادة التصويب على التوازن المسيحي - الإسلامي في كافة الوظائف. لكن عون يتقدم مجدداً، مستنداً إلى تفسير الدستور المنبثق من الطائف، وليس بالخروج عنه. بات عون يؤكد أكثر من مرة تمسكه بهذا الاتفاق والدفاع عنه، وهو ما ردده أمس، في احتفال المدرسة الحربية. وهو بذلك يضرب عمق الأزمة الميثاقية التي يطالب بها التيار الوطني، من ضمن الطائف الذي رفضه قبل أن يصبح رئيساً لجمهوريته ويعلن أكثر من مرة العودة إليه نصاً، لا ممارسةً جرت خلال مرحلة التسعينيات. لعلها من المرات المباشرة القليلة التي يعلن فيها عون الاحتماء بالطائف صراحة بعدما مارس التزامه به منذ سنوات، ورغم معارضة بعض مناصريه للاتفاق. ولعلها أيضاً من المرات النادرة التي يستخدم فيها الطائف في معركة «استعادة الحقوق المسيحية»، فلا يضرب ضربة فوق الدستور بل من قلبه.
«الاستفاقة المسيحية» على الحقوق تجري تحت سقف الطائف بغطاء عون


لكن المشكلة تكمن في الجزء الثاني من النص المتعلق بالهيئة الوطنية، ورغم أن هناك من يلوّح بأن مجرد تشكيلها هو «ضربة للمسيحيين»، إلا أن هناك في محيط عون ومن يطالب منذ زمن ليس ببعيد بضرورة تأليفها وكسر هالة التلويح الدائم بخطرها. خصوصاً أن هذه الخطوة بعد قانون الانتخاب على أساس النسبية يفتح الباب في ظل عهد قوي لإعادة ترتيب الوضع الداخلي من دون ترهيب أو ترغيب. والمشكلة تبقى أيضاً في نظرة القوى السياسية الأخرى لما يطرحه رئيس الجمهورية. لأن توقيت الطرح، وتوجيه رسالة إلى بري، وهو المعنيّ الأول بتمرير المادة 80، يعني أيضاً رفع درجة الممحاكة مع رئيس المجلس، ولو تحت غطاء الطائف. والأمر يتعلق بالحكومة التي لا تزال معطلة، بفعل تبني عون وباسيل إحالة حادثة قبرشمون على المجلس العدلي. وهذا الأمر يصبّ في خانة تعطيل صلاحية رئيس الحكومة الذي يعزز موقفه رؤساء الحكومة السابقون. وهذا يجعل بري والحريري في موقع واحد، وكلاهما اليوم متفقان على أكثر من نقطة لا يلتقيان فيها مع عون أو مع باسيل.
قد يكون عون تقدم بنقطة إيجابية، هي أن «الاستفاقة المسيحية» على الحقوق تجري تحت سقف الطائف، بغطاء رئيس الجمهورية. ولو أن التشكيك السلبي بما سيؤول إليه هذا المنحى مرتفع ولا يصبّ في خانة تعزيز الوضع المسيحي في الإدارة، بل بمضاعفة الشكوك حول النيات وزيادة منسوب التوتر الطائفي. لكن القضية لم تعد محصورة بالمادة 80 ولا باستعادة الحقوق، بل بكل ما يرافقها من ملابسات، وقد أصبحت كثيرة في الأيام الأخيرة وتنذر بالخطر.