يَنْدُر أن نجد صورةً لوليد جنبلاط، يلبس بزّة عسكرية. صورته الأشهر، مدنياً، بجاكيت جلدية وجينز، وهو يحمل رشاش كلاشنيكوف. صورته الشهيرة الثانية، في حربه الثانية، فوق منبر 14 آذار، يُسدل على كتفيه شالاً أحمر وأبيض، صنعته زوجته نورا جنبلاط مع شركة «ساتشي آند ساتشي» في 2005. اليوم، لم يرسم رئيس الحزب الاشتراكي بعد، صورةً جديدة لتنال الشهرة في حربه الجديدة. لكنّ حزبه أمس، أعلنها في مؤتمره الصحافي، بعد أن كان قد مهّد لها لأسابيع.جنبلاط، منذ أشهر، يعتمد رفع السقف في الخطاب لكشف الخصم الفعلي. أوّل الأمر بدأ بالهجوم على سوريا، ولم يسمع صدىً. ثمّ بدأ برفع سقف خطابه التدريجي ضد حزب الله، حتى تجرّأ على مزارع شبعا. ولم يسمع جواباً. وحين اشتدت اتهاماته، اضطر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى الردّ عليه، فوجد في كلامه مادةً لجرّ الحزب إلى سجال... ولم ينجح. ثمّ قبل أسبوعين بالضبط، اتهم الحزب بقرار شلّ الدولة اللبنانية وكرّر الحديث عن شبعا. الأسبوع الماضي، قال في موقف آخر إنه ينتظر موفداً من نصر الله. وهو، على الرغم من قناعته بأن حزب الله ليس خصماً، سوّق ويسوّق نفسه أمام السفراء العرب والغربيين، بأنه من يقف بوجه حزب الله في لبنان، لا الرئيس سعد الحريري ولا رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. لكنّه يحاول منذ ما قبل جريمة قبرشمون، العودة إلى «تنظيم الخلاف» مع حزب الله، بعد أن نكث به مرّات عديدة. ولأجل ذلك، حيّد حزب الله في المؤتمر الصحافي أمس.
في كلّ المراحل، كان جنبلاط يهرب من تظهير الصّراع على أنه درزيّ - درزي. فلا هو يريد تكريس النائب طلال أرسلان ندّاً له، ولا يحتمل أن يزلزل أرض الجبل تحت طائفة الموحدين الدروز في اقتتال دموي يمتد داخل كل قرية بين الإخوة وأبناء العمومة.
لكنّه تصيّد الصراع الدرزي ــ المسيحي، بنسخة عهد الرئيس ميشال عون. انتظر جنبلاط عون قرب «الفخّ»، ليستثمر بتجاذب درزي ــ ماروني في شدّ عصب الجزء الأكبر من طائفته، فأتى رئيس الجمهورية إليه طوعاً، مستعداً للمواجهة ومسلّحاً باتهامٍ بمحاولة اغتيال الوزير جبران باسيل.
بالنسبة إلى جنبلاط، لم يعد مجدياً إخفاء حقيقة التجاذب مع عون: إنها حرب اتفاق الطائف. صحيح أن رئيس الجمهورية يلتزم الطائف في العلن، لكنّه في العمق، وضع الاتفاق الناقص على الطاولة، وبدأ بتفكيكه. إنه السلوك الطبيعي لخطاب «استعادة الحقوق» الذي يحمله التيار الوطني الحر ويدور به باسيل من منطقة إلى أخرى، وما المادة 95 وربطها بوظائف الدرجات المنخفضة وإهمال ربطها بإلغاء الطائفية السياسية، إلا دليل على ذلك.
يخطئ جنبلاط في حساباته، فانتصاراته لم تأتِ يوماً إلّا من تحالفاته، ومع سوريا تحديداً


وجنبلاط بذلك عملياً، يجد المعنى السياسي لحربه الجديدة، مسلّحاً بخطابٍ طائفي يبثّه العونيون في البلاد. يوم أمس، استهدف رأس السلطة السياسية، مهدّداً عهد عون بالفشل، وصوّب على الفريق الأمني والقضائي للعهد، ثمّ هدد بالشارع... وبالحلفاء.
بدا رئيس الاشتراكي في الشهر الأخير، مثل جنبلاط في خريف وشتاء عام 2004، يقود المواجهة مع الرئيس إميل لحّود، ويجرّ الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى المعركة. وبرفعه السقف، يتقدّم فريق المتضررين من تحوّلات النظام الجديد/ القديم الذي يحاول عون تشكيله. وإذا كانت القوى الأخرى خجولة، ولديها حساباتها، فإن جنبلاط وضعها أخيراً أمام الأسئلة: هل نترك ميشال عون يحكم البلد؟ كيف سنتعامل مع عودة العصبية المسيحية إلى الحكم؟ ثم ألقى أجوبته وقطع الطريق في قبرشمون، وردّ على «نبش القبور»، بـ«حفر القبور»: لن يكون أمراً سهلاً أن يعود المسيحيون إلى الحكم بالشكل الذي كان قائماً قبل الطائف.
لا يخلو مؤتمر أمس من المظلّة العربية والأميركية التي لا ينفكّ جنبلاط يعمل عليها. المصريون اليوم أكثر تشدّداً من السعوديين في دعمه، وأكثر ضغطاً على الحريري لضمان دعمه وحماية «مكتسبات» طائفته في الطائف. ولا تخفي مواقف أمس زخماً يستمده جنبلاط من التفاف الجنبلاطيين حوله وجزء من الرماديين الدروز في لعبة «غيرة الدين»، ومن مجموعات مسلّحة من الاشتراكيين ومن مشايخ، يردّدون أنهم أعدّوا العدة كي لا تتكرّر هزيمة أيار 2008.
لكن، برأي كثيرين، يخطئ جنبلاط في حساباته. فانتصاراته لم تأتِ يوماً إلّا من تحالفاته، ومع سوريا تحديداً، التي يصدف اليوم أنّ عون يقف على ضفتها. ويخطئ أيضاً، وهو يرتكب انعطافته الجديدة متمرّداً على التحوّلات، في الهروب إلى الأمام بالهجوم على حزب الله لاستعادة الاتصال معه، في لحظة خوضه معركة الوجود ضد صفقة القرن.