الأسئلة المرتبطة بقرب موعد الانتخابات الإسرائيلية، وكونها عاملاً من عوامل دفع صانع القرار السياسي في تل أبيب إلى شن الاعتداءات الأخيرة في لبنان، جزء لا يتجزأ من التحليلات التي لا تنتهي. فأين هي الانتخابات المقبلة من التصعيد الإسرائيلي الابتدائي مع الساحة اللبنانية؟الواقع أن معظم التحليلات التي تثقّل دور وتأثير الانتخابات في إسرائيل، بوصفها عاملاً متقدماً في اعتبارات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وبلورة قرار شن الاعتداءات، هي حصيلة إرث تاريخي متمركز في الوعي الجمعي للبنانيين وللعرب عموماً، ومبنية على النظرة التاريخية التي تتحكم بهذا الوعي إزاء القدرة الإسرائيلية وإمكاناتها في تحقيق ما تريد من دون أي ثمن مقابل. والنظرة نفسها، تاريخياً، ترى في لبنان (والعرب عموماً) مجرد ساحة تتلقى إرادات إسرائيل والخضوع لها.
واستناداً إلى هذا الاعتقاد الذي يجد صعوبة في الانفلات من ترسخ الهزيمة في الوعي، يصل الأمر بالتحليلات إلى التساؤل عن أسباب سماح إسرائيل، مثلاً، لأعدائها بهزيمتها، سواء ما تعلق ذلك بخسارة أو إخفاق أو فشل أو حتى هزيمة واضحة نكراء. الأساس في هذا الوعي، أن إسرائيل قادرة ولا تقهر وإرادتها هي التي تفرض، وفي حال تحقق نقيض ذلك، فالبحث لا يتعلق في أسبابه المرتبطة بإرادة أعداء إسرائيل، بل في أسباب الإخفاق الذاتي الإسرائيلي.
ومع الإدراك المسبق بأن إثبات العكس صعب للغاية، وسيواجه حائطاً صاداً في الوصول إلى الوعي الجمعي للبنانيين، لكن من الواجب استعراض الواقع من وجهة نظر أخرى.
الانتخابات الإسرائيلية، وأي عامل داخلي إسرائيلي يتأثر بطبيعة الحال بكل ما يحيط ويرتبط به، وتحديداً أحداث أمنية وعسكرية موجهة إلى إسرائيل أو منطلقة منها لضرب أعدائها والحد من تهديداتهم. القول بأن لا تأثير للعامل الأمني أو العسكري على مزاج الناخب الإسرائيلي هو قول سطحي بطبيعة الحال. لكن في المقابل، القول إن كل عمل أمني أو عسكري مبني على تأثيره اللاحق أو المأمول على الناخب الإسرائيلي، فلا يقل سطحية.
في الأساس، أن يعمد صاحب القرار السياسي في إسرائيل، وهو في حالتنا الحاضرة بنيامين نتنياهو، إلى تصعيد أمني أو عسكري كبيراً كان أو صغيراً، موجّهاً إلى أعداء إسرائيل في ساحتهم و/أو خارجها، وأن يكون الهدف من هذا التصعيد هو تعزيز مكانته في صناديق الاقتراع، فيشترط فيه مقدمات، من أهمها توقع أن يحقق العمل المبادر إليه في لبنان، صغر أو كبر، مستوى ملحوظاً من الإنجازات، على أن يكون حدّها مرتفعاً إلى درجة تؤدي إلى تغيير مزاج الناخب الإسرائيلي، الذي لم يكن لينتخب نتنياهو من دون الإنجاز نفسه. ومن الشروط أيضاً أن يحظى نتنياهو بقبول المؤسسة العسكرية، التي لديها القدرة الفعلية على وضع فيتوات على مغامرات مبنية على أهداف شخصية، على أن تتحرك للاعتداء على لبنان، وهي تدرك أن الفائدة التي يعمل عليها نتنياهو هي جذب الناخب الإسرائيلي كي يدلي بصوته لمصلحته.
مع ذلك، وعلى فرض تحقق هذين الشرطين، يجب على نتنياهو وكذلك المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي انجرّت وراءه، وهي فرضية مستبعدة جداً، ألا يكونا منتظرين أو مقدرين أو حتى محتملين، أن لا يحقق الفعل المبادَر إليه في لبنان، ما من شأنه تغيير اتجاه تأثيره ليكون عاملاً في دفع الناخبين ضد نتنياهو في صناديق الانتخابات. وهو تحديداً، شبه مؤكد وبشكل مسبق، لدى نتنياهو نفسه وبشكل أكيد أكثر لدى المؤسسة العسكرية، في الحالة اللبنانية، مع تقدير يصل إلى حد اليقين، أن تبعات الاعتداء في لبنان هي في حد أدنى تحمل في طياتها مجازفة ليس فقط في الرد المؤلم، بل أيضاً في الرد الذي يؤلم، وفي أعقابه التدحرج إلى مواجهة واسعة، لا تخدم من قريب أو بعيد نتنياهو، وهو ما لا تريده وتسعى إليه، بلا مجادلة، المؤسسة العسكرية في إسرائيل.
تصح هذه الفرضية، أي فرضية الاعتداء على لبنان من أجل الانتخابات، في حال كان الفعل استعراضياً، أي مدوياً في التأثير في الوعي الإسرائيلي، من دون أن يجر ردة فعل تؤذي الإسرائيليين. وهذه الفرضية، إن صحت، سيكون من المستغرب أن لا يقدم عليها نتنياهو. وهو ما كان يحدث في الماضي البعيد، قبل الاقتدار اللبناني.
ومن يرى أن الانتخابات هي العامل (مع «ال» التعريف)، في مبادرة إسرائيل للاعتداء على الضاحية، فعليه أن يجد تفسيراً للآتي: كيف لإسرائيل، بمؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية والنخب فيها، مع عامل الزمن المتراكم وتعاظم القوة العسكرية لحزب الله، أن ترتدع وتقرّ بارتداعها عن المبادرة والمواجهة في الساحة اللبنانية خشية التبعات، رغم كل الدوافع والحوافز المبنية على اعتبارات مصالح الأمن القومي، فيما هي تبادر إلى المجازفة بما كان يردعها والاندفاع إلى الاعتداء، على خلفية الانتخابات والمصالح الشخصية؟
في الموازاة أيضاً، تجب الإشارة إلى النقيض. فأن تطرح المؤسسة العسكرية تقديرات حول إمكان سحب المعادلات القائمة في سوريا إلى لبنان، والتقدير بأن الفرصة باتت مؤاتية ــــ وإن على مقدمات خاطئة ــــ هو طرح يتعذر على نتنياهو منعه، وسيتحمل مسؤولية هذا المنع لاحقاً، في أنه حال دون مواجهة تهديد حزب الله وسحب إمكان استهدافه إلى الساحة اللبنانية، لكنه امتنع ولم يصادق.
من هذه الناحية تحديداً، سيتهم نتنياهو بتقديم العامل الشخصي على عامل المصلحة الأمنية لإسرائيل، وهنا يمكن بلا مجادلة طرح الانتخابات كعامل من عوامل المقاربة تجاه الساحة اللبنانية، لكن بما يتعلق بالامتناع عن الاعتداء فيه، وليس بالاندفاع إلى الاعتداء. وفي ذلك فروق كبيرة جداً.
نعم، يستفيد نتنياهو، في السياق، وبمناسبة الفعل الاعتدائي المبادَر إليه، بعد النجاح الكامل وفرض الإرادة وتغيير قواعد الاشتباك، التي تستلزمها معاودة اعتداء وترسيخها مع الساحة اللبنانية، وربما بما يتجاوز موعد الانتخابات نفسه مع لا يقين (وربما يقين) ابتدائي إزاء رد حزب الله. وفي ذلك مقاربة مختلفة، ليست بالتأكيد محل أو مبنى التحليلات السائدة حول الانتخابات الإسرائيلية ودورها في الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
في المحصلة، ما ورد هنا تبصرة، قد تجد لها محلاً لدى البعض، ومعاندة لدى البعض الآخر. إلا أنها لا تضيف الكثير على المشهد الحالي في مرحلة انتظار رد حزب الله على الاعتداءات الإسرائيلية ومنع فرض معادلات وقواعد اشتباك جديدة، لا تحتمل الساحة اللبنانية وطأة سيئاتها وكارثيتها، مهما كانت تبعات الرد.