السؤال الذي يفرض نفسه بداية: هل تكذب اسرائيل في القضايا الأمنية؟ الجواب حسمه رئيس أركان الجيش الاسرائيلي موشيه يعلون عندما أعلن، قبل أشهر، أن اسرائيل تكذب عندما يتعلق الامر بقضايا الامن القومي.مع أن مقاطع الفيديو التي نشرها حزب الله، أمس، تحسم الجدل حول العديد من الاسئلة. إلا أنه - بهدف المقاربة بأكبر قدر من الموضوعية - لنفترض أن الرد الصاروخي الذي نفذّته المقاومة أول من أمس باستهداف آلية اسرائيلية وموقع عسكري للجيش، بالقرب من مستوطنة افيفيم، لم يؤد الى سقوط قتلى أو أي إصابات في صفوف الجيش، كما اعلن نتنياهو، فإن هذا لن يخدش الأبعاد والنتائج الردعية والاستراتيجية والسياسية لهذه العملية.
ليس مفاجئاً أن لا تحقق حركات المقاومة كامل أهدافها العسكرية التكتيكية ضد الجيوش والدول المدجّجة. وكون العملية العسكرية - أي عملية سواء حققت اهدافها العسكرية كلياً أو جزئياً - هي جزء من سياق ردعي وعملياتي، فإنه تبقى لها رسائلها ومفاعيلها لدى مؤسسة القرار السياسي والامني في تل ابيب. وعلى سبيل المثال، فإن رد حزب الله على اعتداء جنتا مطلع عام 2014 لم يؤد الى سقوط قتلى اسرائيليين، لكنه حقّق ردعاً بقي فعالاً لسنوات تلت.
أثبت حزب الله، وهو ما يُقر به المعلقون العسكريون الاسرائيليون، بأنه أفضل من يستخلص العبر. وكثيرا ما نجح في تحويل مثل هذه المحطات الى فرصة لتطوير الاداء وسد الثغرات واكتشاف نقاط القوة في تكتيكات العدو، وابداع التكتيكات المضادة للالتفاف عليها. هذه الميزة شكلت عاملا أساسيا في تطور المقاومة في مواجهة كيان دولتي يصنف ضمن الدول العظمى على المستويين التكنولوجي والعسكري، وعلى مستوى الخبرات القتالية.
بات واضحاً أن هناك مخاوف في تل ابيب، عبرت عنها مصادر في المؤسسة الامنية الاسرائيلية، بأن لا تكون العملية الأخيرة إلا ردا فقط على اعتداء سوريا. وهو ما ألمح اليه ايضا نتنياهو بالقول إنه أصدر تعليماته «بإبقاء الجيش في حالة تأهب، وإنه سيتم اتخاذ القرارات اللاحقة بما يتناسب مع التطورات». يعني ذلك أن الرد على اعتداء الضاحية ما زال على جدول الاعمال، وأن الجولة قد لا تكون انتهت.
الرسالة الاولى في عملية الرد أنها جسّدت ارادة المقاومة في الرد على الاعتداء، وإفهام العدو، بالممارسة العملية، أن أي تجاوز للخطوط الحمر التي رسمها حزب الله لن يمر مرور الكرام أيا كانت الظروف والاثمان. النقطة الثانية أن حزب الله أكّد أن مثل هذه الردود لن يقتصر على مزارع شبعا، وكرّس حقيقة أن كل الحدود اللبنانية - الفلسطينية المحتلة يمكن أن تكون ساحة للرد على أي اعتداء لاحق. وهو مستجد مهم جداً.
في السياق نفسه، من المعلوم أن قواعد الاشتباك عادة ما تشمل ايضا الوسائل القتالية وساحات الاستهداف وعناصر أخرى. أهمية هذا المفهوم تتجلى في حقيقة أن حزب الله كرّس ايضا استخدام الصواريخ المضادة للدروع كجزء من المعادلة التي تحكم الوضع القائم. وتزداد أهمية هذا الاستخدام بأنه استهدف قوة للعدو في اراضي فلسطين المحتلة، التي يعتبرها كيان العدو مناطق سيادية، وانطلاقا من الاراضي اللبنانية. وينبغي التوقف بعمق عند هذا التأسيس الذي أرسته هذه العملية نحو ارتقاء أعلى مستقبلاً.
كما أسقطت العملية رهان العدو على امكانية أن يشكل التهويل عاملاً مؤثراً في قرار حزب الله بالرد على أي اعتداء. كل التهديدات الاسرائيلية والتلويح باعادة لبنان الى العصر الحجري لم تثن المقاومة عن تنفيذ ما وعد به قائدها السيد حسن نصر الله. وفي السياق نفسه، أسقط تنفيذ العملية الرهان على الضغوط الدولية لثني حزب الله عن الرد. وخطورة هذا المعطى، في وعي مؤسسة القرار في تل ابيب، أنه يُقلِّص الرهان على هذه العوامل مستقبلاً، وهو ما سيجعل إسرائيل أكثر تردداً وارباكاً.
من يُحدِّد حالة الردع هو تعامل متلقي الرسالة مع مضمونها. قد يتلقى طرف ما ضربة عسكرية في سياق محدد تؤدي الى ارتداعه. وقد يتعرض لضربة أخرى تؤدي الى خسائر أكبر ولا تؤدي الى ارتداعه في سياق آخر. الخلاصة الأساسية أن الردع مفهوم متحرك وقابل للتغير في ضوء أي قراءة جديدة لأحد أطرافه بما يؤدي الى تعزيز استعداده للذهاب نحو خيارات عملانية أبعد مدى. ولعل المفهوم الأكثر عمقاً أن اي عملية عسكرية ليست هي بذاتها ما يحقق الردع، وانما لجهة أنها محطة تأسيسية في مسار متواصل واحيانا تصاعدي، وهو ما أوضحه السيد نصر الله، أمس، عندما أعلن أن الردود اللاحقة على أي اعتداء اسرائيلي ستكون تصاعدية وأشد على العدو. هكذا فإن قيمة أي محطة عملياتية، هي بمقدار ما تنعكس في حسابات متلقي الرسالة - الضربة. والخلاصة الأشد وقعاً على مؤسسة القرار السياسي والامني في تل ابيب، أنه رغم مزاعم القيادة الاسرائيلية عن نتائج العملية، إلا أن المؤكد أن حزب الله حقق نتائج استراتيجية مفصلية في أكثر من اتجاه. فقد أسّس لخيار عملياتي جديد في معادلة الردع في مواجهة كيان العدو. والخلاصة الأكثر أهمية أن قادة العدو باتوا أكثر ادراكا أن اي تجاوز لخطوط حمر رسمتها المقاومة سيواجه بالردود الملائمة. وبالتالي، سيكونون أكثر توجساً من أن ينحو حزب الله في حال تكرار الاعتداءات الى مسار تصاعدي في ردوده، خاصة وأن أي عملية رد هي وسيلة لهدف محدّد وهو الردع وتثبيت قواعد الاشتباك. وعلى افتراض أن أي عملية تكتيكية لم تحقق هدفها الردعي فإن ذلك يشكل أساساً للارتقاء في الردود اللاحقة من أجل تحقيق الاهداف المؤملة. استناداً الى هذه الحقيقة، فإن الهاجس الذي يتوقع أن يكون أكثر حضوراً لدى قادة العدو أنهم سيكونون أكثر ادراكا بأن خسائرهم في المرة المقبلة ستكون أشد بكافة المعايير المعنوية والميدانية والردعية.