ما بات معروفاً لدى الزعماء والسياسيين اللبنانيين جميعهم ان ثمة قاعدة اضحوا يستظلونها، هي انهم لا ينسون ولا يسامحون، وإن زعم بعضهم انه ينسى ولا يسامح، والبعض الآخر انه يسامح ولا ينسى.ما بين الرئيس سعد الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وبين رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الكثير من الماضي البعيد والماضي القريب الذي لا يُسامَح ولا ينسى. كذلك ما بين الرئيس ميشال عون وجعجع، وإن اثقل وطأة وكلفة. ليس الامر اقل مع حزب الكتائب والشخصيات المسيحية المستقلة بعدما اضطلع جعجع بدور رئيسي في اقصائها من معادلة السلطة في اتفاق معراب اولاً، ثم في انتخابات 2018.
مع ان علاقة جنبلاط بالحريري شهدت مراراً صعوداً وهبوطاً، وتبادلا احياناً اتهامات قاسية احدهما بالآخر وتشهيراً به، بيد ان احداً لم يتوهم انهما سيكونان يوماً على طريق الانفصال في وقت يجمع بينهما قاسم مشترك لا يسع اي منهما مواجهته بمفرده لبنانياً، ولا يبدو واثقاً من ان الغطاء الدولي لكليهما كاف لحمايتهما، في احسن الاحوال ضمان سلامتهما. بل يبدوان متيقنين مجدداً - على نحو ما شهده جنبلاط والرئيس الراحل رفيق الحريري ما بين نهاية عام 2004 ومطلع عام 2005 - ان امنهما ودوريهما السياسي متكاملان.
يكمن القاسم المشترك للحريري وجنبلاط في انهما قبالة خصمين يصعب التخلص من مواجهتهما في المدى القريب على الاقل: حزب الله وسوريا. لجنبلاط والحريري حساب اول مع سوريا هو اتهامها باغتيال والديهما، ولهما مع حزب الله حساب لا يقل اهمية يرتبط باخلاله منذ 7 ايار 2008 بموازين القوى الداخلية، ثم منذ انتخابات 2018 بحرمان كل منهما من زعامته المطلقة غير المنقوصة. بات للحزب موطئ قدم في الطائفتين السنّية والدرزية من جهة، والطرف القادر على تقييد دور رئيس الحكومة في معادلة الحكم، والقادر على ادخال القلق الى قلب جنبلاط بازاء مستقبل زعامة المختارة في السلطة من جهة اخرى.
بيد ان اياً من الرجلين لم يجد في التحالف مع القوات اللبنانية ورئيسها حاجة ضرورية، ما خلا محاولة إحداث توازن في الاشتباك السنّي - الشيعي داخل السلطة اللبنانية ما بين عامي 2005 و2008، منذ تحالف الرئيس ميشال عون مع حزب الله عام 2006. بدوره جعجع لم تكن قفزات تحالفاته اقل التباساً واثارة للجدل وفي معزل عن حليفيه المفترضين. في مرحلة الشغور الرئاسي عام 2015 اختار المصالحة مع عون في توقيت بدا غامضاً للحريري وجنبلاط اللذين كانا يناوئان ترشيحه، ثم ذهب الى اعلان ترشيحه له في مطلع 2016 بعدما رشّح الحريري سليمان فرنجيه. من قبل، في ذروة تحالف الثلاثة عام 2007 ووقوفهم على منصة قوى 14 آذار، تفاهم الحريري وجنبلاط وحدهما على ترشيح قائد الجيش ميشال سليمان من دون إخطار حليفهما المسيحي، مثلما اختار الحريري مصالحة دمشق عام 2009 في ذروة مواجهة النظام السوري، تبعه جنبلاط عام 2010، وكان الزعيم الدرزي سباقاً الى الخروج من قوى 14 آذار 2009 وترك حليفيه الآخرين وحدهما في المواجهة. منذ 7 ايار 2008 اختار الحريري وجنبلاط التحاور مع حزب الله، فيما وجد جعجع نفسه اقرب الى المعارض الوحيد له، من غير ان يتمكن من تحصين نفسه بحلفاء. لا يسع تطورات متلاحقة كهذه الا ان تفضي الى الخاتمة المخيبة، وهي انهيار قوى 14 آذار التي لم يعد سوى جعجع وحده تقريباً يتحدث عنها، او يتوقع استعادة دورها، ويذكّر بروحها التي اضحت جثة.
لا ضرورة للحليف الوكيل في عهد الحليف الاصيل


لعل الاكثر تعبيراً عن الخيبة، مبالغة جعجع - ولا يزال - في الاعتقاد انه مثّل الدفع الفعلي لوصول عون الى رئاسة الجمهورية، في وقت كان حزب الكتائب والمسيحيون المستقلون يعارضون هذا الخيار. على ان انضمام الحريري اولاً، ثم جنبلاط على مضض، في تشرين الاول 2016 الى ترشيح عون افصح عن وهم الدعم الذي تسلح به جعجع كي يقول ان له حصة عظمى في انتخاب عون ثم في العهد الجديد، بينما واقع الامر ان ائتلاف الناخبين الشيعي والسنّي هو مَن قاد الرئيس الى منصبه. هذان الناخبان وفّرا انتخاب ميشال سليمان من غير ان يمتلك اي حيثية سياسية او شعبية.
تكاد تكون عبارة الحريري امام جنبلاط في كليمنصو عن جعجع وحزبه «انهم يعرفون ما قاموا به معنا»، افضل دليل على ان الحريري لم يسامح حليفه السابق على موقفه من احتجازه في الرياض في تشرين الثاني 2017 ورهانه على احد سواه لخلافته. الاصح ايضاً انه لم ينسَ رغم المصالحة المتأخرة بين الرجلين، بعد ستة اشهر على محنة الرياض باصرار سعودي. لم يكتفِ الحريري بتصفية جزئية للحساب مع جعجع في انتخابات 2018 حينما دعم في بيروت الاولى وزحلة والكورة التيار التيار الوطني الحر، فقلص له من ثم حصته في الحكومة الجديدة، ومن ثم التعيينات التالية وصولاً الى آخرها في المجلس الدستوري والتعيينات القضائية، ولن تكون التعيينات المقبلة سوى صورة مطابقة لمغزى صمود التسوية الرئاسية اولاً، وتحوّل الوزير جبران باسيل الحليف المسيحي الوحيد للحريري، وربما كذلك تدريجاً في مراحل لاحقة لجنبلاط.
مع اقتراب انطواء النصف الاول من الولاية، يتصرّف الحريري وجنبلاط على ان الاوان حان، منذ ما قبل الآن، للتحالف مع الاصيل لفقدان الثقة بالوكيل.