رغم المخاطر التي تحملها الكثير من المشاريع المصنفة «بيئية»، والتي لا تقل خطورة عن الأزمات الاقتصادية، لا يزال الإطار المدني الذي يفترض أن يواجهها في حالة انحدار دراماتيكية!لطالما حلم البعض، في فترات تاريخية متباعدة، بإنشاء جمعيات وحركات وتجمعات وائتلافات وأحزاب بيئية لتشكيل قوى وازنة وموازية… الا انها لم تنجح حتى الساعة في ذلك.
آخر محاولات تجميع القوى المدنية المهتمة بالشأن البيئي العام جرت مؤخراً لتأسيس «تحالف بيئي وطني» يتصدى للمشاريع التي تحضر للبنان، كاستباحة الطبيعة والاقتصاد بكثير من السدود المائية غير الضرورية والمكلفة (بما يرتّب ديوناً) والمخرّبة للنظم، والتسرع بالسير في خيار التنقيب عن النفط والغاز في غياب استراتيجية للطاقة، واستمرار العمل العشوائي للمقالع والكسارات والمرامل وشركات الاسمنت من دون تحديد الحاجات الحقيقية لهذا القطاع، ومحارق النفايات الخطرة وخطط الطوارئ السيئة لادارة هذا الملف… اضافة الى مواضيع أخرى كثيرة.
عقد هذا التحالف اجتماعاً أول ناجحاً لناحية شموليته جميع الأطراف البيئية، باستثناء «الجمعيات الغنية» التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد. وهي جمعيات تملك موازنات ضخمة وتدخل في مشاريع مع أطراف محلية ودولية، وتتجنب اي مجابهة يمكن أن تضر بمصالحها التمويلية. وضعت لجنة انبثقت عن هذا «التحالف» أهدافا نبيلة وعامة جدا، مع محاولة وضع صيغة تنظيمية معقولة، لم تجد خواتيمها السعيدة لعدم اكتمال نصاب الاجتماع الثاني الموسع الذي غاب عنه تجمعان، هما الأكبر لناحية عدد الجمعيات التي يضمانها، بسبب تزامن موعد الاجتماع مع تحضيراتهما لإطلاق مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي بمليون يورو تحت عنوان «بحر بلا بلاستيك»! جرى ذلك في وقت أوقف الاتحاد الأوروبي 17 مليون دولار كانت ستذهب لانشاء معامل لمعالجة النفايات عبر وزارة التنمية الإدارية، ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول دور ممثلي الاتحاد في تسهيل الاستثمارات الاوروبية في تقنيات خطرة (مثل محارق النفايات) وفي ترويض الجمعيات وتفكيك التحالفات، بالتعاون مع السلطات المعنية التي تنفذ سياسات، اقل ما يقال فيها انها غير حميدة وليست في مصلحة الطبيعة ولا البيئة ولا الاقتصاد!
المعروف أن بعض الجمعيات المستفيدة من المنحة كانت تعمل، تاريخياً، على جمع الكرتون والورق وتسليمهما لمصانع اعادة تصنيعها، وقد سأل احد الظرفاء، تعليقاً على المشروع الاخير لهذه الجمعيات: «كيف لجمعيات الكرتون أن تنقذ البلاستيك من الغرق في البحار؟»، في اشارة الى إهمال قضايا النضال في إطار جماعي ووطني، والاهتمام بمشاريع شبه فولكلورية، شبيهة بحملات «الأزرق الكبير» على الشاطئ كل سنة (منذ أكثر من 15 عاماً)... والتي انتهت بوجود أكبر مطمرين على الشاطئ (في برج حمود والكوستابرافا) واستمرار مكب طرابلس الشاطئي في التوسع، من كثرة «التوعية» التي ساهمت بها هذه الحملات!
بات ملحا اعادة طرح الأسئلة حول التمويل الكبير لحملات ومشاريع سطحية، مقارنة بعمق المشكلات التي يواجهها مجتمعنا وطبيعتنا. فهل هي لرفع العتب ام من اجل الاستثمار ام الالهاء؟ وما قصتنا مع الحملة على النايلون او البلاستيك بالتحديد، في وقت لسنا نحن من صنّعه وسوقه كل تلك السنوات، بل تبنينا استخدامه واستهلاكه كما تبنينا الكثير من النظريات والأفكار المستوردة؟
نعم، لقد استسهلنا تبني الفكر العملي وتخلينا عن الفكر النظري، وفضلنا الأجوبة الجاهزة على الاسئلة، كما تخلينا عن قيم الاستدامة لمصلحة قيم التجديد او ما يسمى «الموضة» التي تروج لاسباب تجارية وانتاجية واستثمارية. ثم تأتي اليوم جمعيات النايلون، التي كانت حتى الأمس القريب جمعيات من كرتون، لتطلب منا أن نتخلى عن البلاستيك، من دون أن تتخلى هي عن فكرها المنبهر بكل ما هو «فرنجي»، ومن دون أن تتخلى عن فرديتها، بدليل انها ضحت بالعمل مع تحالف كبير له أهداف فكرية وحضارية بديلة وعميقة وثورية، من أجل حملات شكلية لا قيمة لها إلا بكونها ممولة من الاتحاد الاوروبي؟!
ليس جنوح الجمعيات التمويلي والاستثماري وحده من شكل عاملا محبطا لعمل التحالف الذي كان ينوي العمل لتغيير الاستراتيجيات والسياسات، وهو إطار أفضل الممكن للتغيير والمساهمة بالخروج من المشاكل الخطيرة التي تضرب الموارد ومقومات الحياة في لبنان من ماء وتربة وهواء وغذاء. هناك عوامل اخرى مساهمة في تعثر لقاءات وتحالفات يفترض أن تكون تطوعية ومستقلة وهادفة وأكثر تمثيلا لمصالح المجتمع. وهي صفات باتت نادرة في بلد مثل لبنان، شهد موجة صعود «تيارات» سياسية، لمجرد انها حصلت على تمويل مهم وصدف كثيرة وضعتها في «جنة» الحكم، ولم تحتج لكثير عناء من اجل انضاج عقائد وخلفيات فكرية وبرامج سياسية وانمائية بعيدة المدى، واكتفت بتلزيم شركات لوضع برامج استثمارية في كل القطاعات، بغض النظر عن أثرها الاجتماعي والاقتصادي والبيئي.
كان يفترض بالتحالف المدني البيئي أن يقدم نموذجا مختلفا للعمل والاهتمام بالشأن العام، بعيدا عما هو سائد على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطائفي… لكنه لم ينجح بالتبلور حتى الآن، مع الأسف الشديد.
رغم كل ذلك، ومع أن إطار الائتلافات والتحالفات لم يكن الإطار الأفضل للنضال البيئي الحقيقي الذي كان يحتاج الى انتاج ايديولوجيا جديدة بكل ما للكلمة من معنى لناحية الشمولية والعمق، واطار تنظيمي أكثر التزاما من أطر الائتلافات التي تحافظ على المصالح الخاصة والخصوصيات والتناقضات للاطراف… لا يزال هناك بصيص ضوء.
الأمل ليس مقطوعا في حال تم تبني المبدأ الذي يقول إن «الوحدة ليست قيمة عليا»، بل القيمة التي يفترض السعي اليها هي تحقيق الأهداف ذات القيمة الأعلى مثل الثبات على مبدأ الدفاع عن اسس الحياة. وان التخفيف من العدد وعدم الانشغال بضرورة أن يكون «الجميع» مشاركاً، بات مفهوما ومقبولا ومطلوبا من أجل التقدم أكثر، تماما كما حصل مع ائتلاف النفايات، الذي بدأ متعثرا ومتناقضا وانتهى، كما في مطالبه التي عرضها في الاعتصام الأخير أمام وزارة البيئة، واثقا واستراتيجيا أكثر من الحكومة والوزارة المعنية نفسها.
يبقى أن تحولاً كبيراً في التعاطي مع القضايا البيئية حصل في السنوات الاخيرة، قد يكون في مصلحة البيئة رغم التراجع الدراماتيكي في كل الملفات الرئيسية. وقد رسخ هذا التحول قاعدة جديدة تقول: «ليس كل من يعمل داخل الجمعيات بيئياً، وليس كل من هو خارجها غير معني بالبيئة». لا بل يمكن الجزم ان القضايا الحياتية والبيئية الكبرى خلقت رأياً عاماً جديداً ذا حس نظيف، لم تلوثه التمويلات بعد، ويمكن ان يشكل رافعة لحركة بيئية جديدة، اذا ما كانت تستند الى خلفية فكرية عميقة ومتينة واتجاهات نضالية حقيقية واطار تنظيمي مناسب.