على غرار احتجاج السترات الصفر في شارع واحد في باريس هو جادة الشانزيليزيه، في يوم واحد في الاسبوع هو السبت، ثم تطور يومياً تقريباً، باشر جزء من المجتمع المدني التحرّك. في الاحد الاول قبل اسبوعين حضر نحو 500 محتج. الاحد المنصرم تناقصوا الى 200، فيما لم يزد عدد العسكريين المتقاعدين امام مبنى الضريبة على القيمة المضافة عن 150 محتجاً. كل ذلك قبل احالة موازنة 2020 الى مجلس النواب منتصف هذا الشهر. الا ان ما يحدث لا يستبعد تكرار ما خبرته موازنة 2019 عندما اضحت في عهدة البرلمان، لدى لجنة المال اولاً ثم الهيئة العمومية. بذلك يبدو تصاعد حركات الشارع، على بطئها الحالي، مؤشراً اولياً مرشحاً لأن يصبح مقلقاً في المرحلة المقبلة.رغم التطمينات التي يطلقها رئيس الجمهورية ميشال عون بإزاء السيطرة على تردي الوضع الاقتصادي، والمظاهر العلنية لرئيس الحكومة سعد الحريري بإزاء نجاح مهمته في مؤتمر الاستثمار في ابوظبي، ناهيك باظهار مجلس الوزراء عزمه على انجاز الموازنة وارسالها الى مجلس النواب في المهلة الدستورية، ثم تطمينات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى توافر الدولار في السوق... كل هذه تمسي عديمة الجدوى والفائدة في لحظة يعلن فيها قطاع الافران او موزعو المحروقات او اصحاب المحطات انهم قرروا اضراباً عاماً، فتصبح الاشاعات وتكديس المؤن وتجميع الدولارات في البيوت سيدة الساحة، ومفتاح الاستقرار اضحى بين يدي هذه القطاعات.
منذ توالي حركات الاحتجاج الاخيرة على هزالها، في الاسبوعين الاخيرين وإن رافقتها اعمال شغب قليلة الاهمية، لم توحِ للاسلاك العسكرية والامنية بقلق قريب على الوضع الامني، من غير ان تقلل هذه في المقابل احتمال تصاعد الوتيرة وتعرّض الوضع الداخلي الى فلتان غير محسوب. بيد ان بضع ملاحظات يبديها مسؤولون امنيون بارزون حيال تحرّك الشارع تبدو بالنسبة اليهم علامات ذات مغزى، لا يقاربها السياسيون بجدية:
اولها، ان الدور الذي اتخذه الجيش والاسلاك العسكرية والامنية حتى الآن يقتصر على الحؤول دون اي تسيّب مفتعل: حماية حرية التظاهر والاحتجاح من غير تحولها الى فوضى، لكن في المقابل حماية المؤسسات والمنشآت الرسمية ومنع اي اعتداء عليها. تبعاً لذلك بدأت الاجراءات الامنية تنتظم كل سبت تحوطاً للأحد الذي يليه، في بيروت كما في طرابلس التي تتخذ طابعاً مختلفاً اكثر حدة ومصدراً للقلق اذ يوجّه المحتجون حملاتهم الحادة والمعلنة ونقمتهم ضد مرجعيات رئيسية في مدينة غالباً ما تمتلك ردود فعل اكثر عنفاً، وايضاً قدرة على اجتذاب المحتجين الى الشارع من بيروت.
ثانيها، لا يزال انقسام المجتمع المدني، وتعذّر توحدّه وهزال تحرّكه، يمثل «عاملاً ايجابياً» على السواء للأجهزة الأمنية وكذلك للطبقة الحاكمة التي تبدو قليلة الاهتمام بحركة الشارع البيروتي وفاعليتها. جراء هذا الانقسام، مرّ الأحدان الاولان بسهولة كأنما لا احتجاج، كذلك الامر بإزاء احتجاج العسكريين المتقاعدين الذين انقسموا بين دعاة اقفال الطريق ودعاة ابقائها مفتوحة. بذلك بدا الامتعاض الشعبي المعلن محدوداً انضم اليه الحزب الشيوعي اللبناني بمهاجمة مقر الاتحاد العمالي العام. في الدلالات الامنية، تواتر احتجاجات كهذه مآلها الانطفاء ما لم يحدث ما يحيلها عاصفة تضع الاستقرار فعلاً عند حافة الانهيار.
ثالثها، الى اليوم، على وقع الحراك الشعبي الحالي، ليس ثمة مؤشر وشيك ومباشر الى احتمال استعادة الجيش اختبارين صعبين شهدهما في الشارع وجهاً لوجه مع المحتجين: الاول في ايار 1992 ابان ما عُرف بـ«ثورة الدواليب» حينما اجتاحت الشوارع التظاهرات واعمال شغب خطيرة في عدد من الاحياء احتجاجاً على انهيار العملة الوطنية، لم يسع الجيش المنتشر في تلك المناطق لمواجهة الغاضبين ولا الاصطدام بهم رغم اوامر أُعطيت له بالقمع. الثاني في آذار 2005 لدوافع مختلفة تماماً ذات ابعاد سياسية مرتبطة بانقسام وطني، لم يسع الجيش ايضاً للحؤول دون تدفق المتظاهرين على ساحة الشهداء للتعبير عن غضبهم على سوريا وعلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكانت اوامر قيادته قضت بمنع اجتياز المتظاهرين الحواجز والاسلاك الشائكة، الا انهم اخترقوها. في كلا الحالتين، لمبررات متباينة تماماً، أُفلت الشارع كلياً من زمام سيطرة السلطة السياسية عليه، ولم يكن للجيش سوى ان يكون شاهداً على غضب مدني، متفهماً المسار الذي يسلكه ومتساهلاً معه حتى.
رابعها، مع ان الانهيار لم يحصل بعد، بيد انه احتمال حقيقي لا يقتصر على تكهنات المراجع الاقتصادية والنقدية. لدى الاجهزة الامنية خشيتان متلازمتان غالباً ما شهدتهما: لا انهيار اقتصادياً لا يليه انهيار امني، ولا انهيار امنياً من دون دوافع وشروط معيشية واجتماعية ذات المنشأ الاقتصادي والنقدي. تالياً كلاهما يقعان بالتزامن او يبرّر احدهما الآخر. جراء ذلك امكن الاجهزة الامنية في مراقبتها احتجاج الاحد الفائت ملاحظتها ان عدد العناصر المولجين بالامن تجاوز عدد المحتجين في الشارع، من غير التيقن من ان هذا القياس، في ظل تواصل التردي، سيظل ثابتاً.
لا انهيار اقتصادياً لا يليه انهيار امني، ولا انهيار امنياً من دون دوافع معيشية واجتماعية


خامسها، يقتضي الاخذ في الاعتبار التحرك الجديد للعسكريين المتقاعدين الذين تمكنوا، في مواجهة موازنة 2019 لدى مناقشتها في البرلمان، من استعادة جزء اساسي من حقوق كانوا سيُحرمون منها. بسبب لجوئهم الى الشارع والتظاهر والاعتصام وتحريك الرأي العام وبعض الشغب «المدروس» وتيقنهم من تعاطف القيادة معهم واقفالهم الطرق والمرافق، خفضوا الفاتورة التي كانت ستفرض عليهم في رواتبهم وتعويضاتهم في الخدمة والتقاعد. ما فعلوه الخميس الفائت باقفال بوابة مبنى الضريبة على القيمة المضافة منذ الساعات الاولى من الصباح ومنع دخول الموظفين اليه، اقدموا على ما هو اسوأ منه عندما اقفلوا عام 2019 بوابات مصرف لبنان ومرفأ بيروت ومؤسسات عامة، وكانوا في طريقهم الى اقفال الطريق الى المطار. ما حدث الخميس، على تواضعه وقلة تنظيمه، ارسل اشارة اولى الى السياسيين ومجلس النواب، لكن ايضاً الى الشارع المدني لاجتذابه. في موازنة 2019 كانت المشكلة في تعويضاتهم كحقوق عسكرية. اليوم اضحوا في مواجهة محاولة جديدة تطاول حقوقاً عسكرية ومدنية في آن تتمحور حول تعديل نظام التقاعد والدواء والمحروقات والخبز ومدخراتهم في المصارف.
تفلت الوضع الامني في حال كهذه هو ما يستدعي رسم اكثر من علامة استفهام.