ليس موقف الوزير جبران باسيل مساء الأحد من الاتصال المباشر بسوريا جديداً ولا طارئاً، ولا حتماً مرتبطاً باستحقاق آنيّ شأن ربطه في اجتماع الجامعة العربية، السبت، بين استعادتها مقعدها فيها والغزو التركي لأراضيها. ليس مفاجئاً بالضرورة لأيّ من الأفرقاء الآخرين، بعدما كان سبقه إليه على نحو صريح رئيس الجمهورية ميشال عون في 25 أيلول من منبر الأمم المتحدة، حينما رجّح التواصل المباشر «حكماً مع الدولة السورية» لتشجيع عودة النازحين بعدما أضحوا «معضلة تهدّد الكيان والوجود»، شاكياً من العجز الدولي حيالها.لم يلقَ كلام عون يومذاك ردود فعل سلبية، ولا سارع رئيس الحكومة سعد الحريري إلى التذكير بالبيان الوزاري للحكومة، ولا بسياسة النأي بالنفس. لم يتبرّأ مما أعلنه عون في نيويورك، ولم يقل إنّه يعدّه موقفاً شخصياً غير مُلزم للحكومة اللبنانية. لم يبادر أحد أيضاً إلى القول لرئيس الجمهورية إنّه يطعن في صدقية النظام السوري حيال عودة مواطنيه إليه، ولم يصر تبعاً لذلك إلى «لبننة» هذا الموقف لفتح سجال سياسي من حوله.
بذلك كان مضمون كلمتي الرئيس والوزير واحداً، خاطب المجتمَعَين الغربي والعربي (السعودية وحلفاءها تحديداً) اللذين لا يزالان يناوئان نظام الرئيس بشار الأسد ويشكّكان في شرعيته ويمتنعان عن فتح الأبواب أمامه، مع أن خلوّ مقعد سوريا في الجامعة العربية لم تقابله المنظمة الدولية بموقف مماثل، فظلّت عضواً في الأمم المتحدة.
على أن موقفي باسيل، في القاهرة أولاً ثم بعد يوم في الحدث، في مناسبتين مختلفتين تماماً، شقّا الطريق عريضة على اشتباك سياسي استهلاكي ليس إلا، بعدما ردّ الحريري الأحد والاثنين على هذين الموقفين من دون أن يبدوَا قاطعين في توجيه مجلس الوزراء والسياسة الخارجية للحكومة في منحى معاكس لما يتحدث عنه، على الدوام، رئيس الجمهورية ووزير الخارجية.
إلى عون وحده يُعزى فتح القناة الأمنية مع دمشق من خلال المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وكذلك قناة سياسية من خلال قريبين منه يتردّدون إلى العاصمة السورية، من غير أن يصل هذا التواصل حتى الآن إلى أرفع مستوياته، ما خلا بضعة اجتماعات بعيدة عن الأضواء حتّمتها وساطات إقليمية ودولية نيطت باللواء ابراهيم، قادته إلى الاجتماع بالأسد أكثر من مرة. في كل منها كان الوسيط اللبناني يكتفي بالقول إن الاتصال أمني فحسب، بغية دحض أي فحوى سياسي له لم يصدر عن الحكومة اللبنانية. مع ذلك، من دون قرار من الحكومة اللبنانية السابقة، التقى باسيل نظيره السوري وليد المعلم في 21 أيلول 2017 في نيويورك. كذلك فعل وزراء حزب الله وحركة أمل وتيار المردة حينما زاروا، أكثر من مرة، دمشق والتقوا نظراءهم في آب 2017 وأيلول 2018. لم يعثر الحريري على تبرير لما حدث سوى القول إنه اتصال شخصي، مع أن الوزراء الثلاثة كانوا في مَهمات مرتبطة بحقائبهم.
الكلام نفسه أعاد رئيس الحكومة البارحة تأكيده، مع ربطه إياه بتفسير انقسم اللبنانيون حوله قبلاً ولا يزالون، وهو «دافع» إخراج الجيش السوري من لبنان. بينما يعزوه الحريري وحلفاؤه - وبينهم وليد جنبلاط الذي كرّره أمس - إلى «دم» الرئيس رفيق الحريري، فإن للفريق الآخر وجهة نظر معاكسة هي القرار 1559. انقسام كهذا بدأ عام 2005، ولا يزال متواصلاً سواء عند مناقشة جريمة الاغتيال كما عند مناقشة توازن القوى الذي نشأ حينذاك وانهار في 7 ايار 2008. لم تتردّد قوى 14 آذار في الإفصاح عن أن حزب الله خَلَفَ دمشق في إدارة اللعبة السياسية الداخلية، مقدار ما خلف سلاحه الجيش السوري في ضبط الاستقرار كما في تعريضه للاهتزاز. عنى ذلك وهم الاعتقاد بخروج سوريا تماماً من لبنان.
على غرار سلاح حزب الله، لا مكان للموقف من سوريا في مجلس الوزراء


بذلك، منذ اتفاق الدوحة عام 2008، في مرحلة مصالحة الحريري عام 2009 وجنبلاط عام 2010 مع دمشق، ثم انقلابهما عليها مجدداً مع اندلاع الحرب فيها عام 2011، أضحى الموقف من النظام السوري، عملياً، خارج أي اتفاق بين تيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل بصفتهما فريقي الاشتباك السنّي - الشيعي. لم تعد في صلب البيان الوزاري، واستمر كل من الطرفين المتنافرين يتسلّح بوجهة نظره المؤيّدة لنظام الأسد أو المعارضة له. منذ وقوع الحرب السورية لم تخض أي من الحكومات الأربع المتتالية للرؤساء نجيب ميقاتي وتمام سلام والحريري، في مجلس الوزراء، في أي موقف رسمي يندّد بنظام الأسد أو يطعن في شرعيته، أو في أحسن الأحوال يطلب إلغاء المعاهدة والاتفاقات المعقودة معه وسحب السفراء. حينما راحت البيانات الوزارية المتعاقبة تتحدث عن النأي بالنفس بصيغ متطابقة تقريباً، لم يكن السوريون معنيين بها، بل اللبنانيون لوقف تدخّلهم في فصول الحرب هناك، ثم تطور تبرير النأي بالنفس لكي يعني عدم تدخل أي من الأفرقاء اللبنانيين، وتحديداً السنّي والشيعي، في شؤون الدول العربية، في إشارة صريحة إلى دور حزب الله في اليمن تارة، وحملاته العنيفة على السعودية طوراً.
على نحو كهذا أضحى الموقف من سوريا مماثلاً للموقف من سلاح حزب الله. لا أحد يخوض في أي منهما في مجلس الوزراء تفادياً لانقسامه، إلا أن اياً من الأفرقاء المعنيين به لا يتخلى عن وجهة نظره منهما، من دون الانقياد بالخلاف والتباين إلى الشارع. لعل في ذلك مغزى قول الحريري البارحة، مستخلصاً موقفه من زيارة محتملة لباسيل لدمشق: «هذا شأنه». إشارة صريحة إلى أن لرئيس الحكومة أولويات أخرى لا تتأثر كثيراً بتناقض الخيارات مع وزير في الحكومة التي يرأسها، وإن حيال نظام يعدّه عدواً له. لكن الإشارة المقابلة أن للوزير الأول سياسات لا تمر بالضرورة برئيس حكومته ولا بمجلس الوزراء.
القصة المناقضة لذلك كله هي الآتية:
في تشرين الثاني 1956 استقال رئيس الحكومة عبدالله اليافي ووزير الدولة صائب سلام، بعد ارفضاض قمة عربية عُقدت في بيروت، بسبب رفض رئيس الجمهورية كميل شمعون قطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا وبريطانيا ومجاراة مصر ودول عربية أخرى في هذا الخيار كجزء لا يتجزّأ من ميثاق الدفاع العربي المشترك، رداً على مشاركتهما في حرب السويس.
في كتاب الاستقالة عزا اليافي أسبابها، بلا إفصاح، إلى «تباين في الرأي» فحسب.