صباح أمس، أرسلت بعض القنوات اللبنانية، إشعارات على شاكلة أخبار عاجلة على هواتف اللبنانيين، تخبرهم فيها عن فتح الطرقات التي كانت مقفلة بفعل التظاهرات. من يقرأ هذه الإشعارات بعد ليل دام وعنيف، في وسط بيروت، والقرار الأمني السياسي المتخذ والقاضي بطرد المعتصمين من الساحة بالقوة، لا بد من أن يتيقّن جيداً المسار الإعلامي الذي بدا مختلفاً في يومه الثاني. كأن هذا الإعلام أراد القول للبنانيين: انتهى الحراك الشعبي... يمكنكم استكمال حياتكم بشكل عادي. خطوة كانت تنذر بما ستؤول اليه التغطيات التي انحرف جلّها عما كان عليه في اليوم الأول، من فتح هواء للمتظاهرين، وتجنيد المراسلين على نقاط التظاهر كافة. لعل ساعة الصفر أو إشارة هذا الإنحراف، يمكن الاستدلال عليها بشكل واضح، بعد تصريح سعد الحريري، وتوجهه الى المتظاهرين، ونفض المسؤولية عنه، وإعطاء شركاءه في الحكومة مدة 72 ساعة لإنقاذ الوضع الإقتصادي المنهار.
(عن تويتر)

الحريري الذي بات لا يملك شاشة ولا جريدة تنطقان باسم تياره السياسي، يحظى بالطبع، بمساحات إعلامية في بعض القنوات، مع باقي حلفائه. وما تظهّر أول من أمس، هو تنفيذ لغرفة عمليات منسقة، تهدف إلى إخماد الحراك الشعبي، وطمسه، وطرد الناس من ساحة «رياض الصلح» بشكل جذري، الى جانب تعمّد قطع البث كما حصل مع mtv، التي «اكتفت بهذا القدر من التغطية» وأقفلت هواءها عند التاسعة من ليل أول من أمس، لننتقل الى حفلة أخرى على الشاشة، يقودها مارسيل غانم. ضمن حلقة استثنائية من «صار الوقت» أول من أمس، أفرد غانم مساحة وافرة لكبار الساسة وباقي الشخصيات المنبوذة أصلاً في الشارع والمغضوب عليها، والتي مُنعت أحزابها من ركوب موجة الاحتجاج. نتحدث عن استضافة كل من أنطوان زهرا، وفارس سعيد، وسامي الجميل، ومداخلات هاتفية مع سمير جعجع، وسليمان فرنجية ووليد جنبلاط. اكتملت الحفلة على قناة المرّ التي رفعت في يسار شاشتها شعار «لبنان ينتفض»، وها هي تكتم صوت الشارع لصالح أصوات السياسيين والمسؤولين المباشرين عن الأزمة الحاصلة في البلاد. ومع انكفاء mtv، واكتفائها بتغطيات بسيطة لأعمال الكرّ والفرّ التي سادت في وسط بيروت، رأينا فجأة القوى الأمنية وقوى «مكافحة الشغب» عازمةً على طرد المتظاهرين بقوة خراطيم المياه، والقنابل المسيّلة للدموع. بعدها، استُقدمت قوى أخرى من الجيش عملت على طرد هؤلاء من الساحة نهائياً وصولاً الى «مسجد محمد الأمين».

(مروان بوحيدر)

هنا، بدأت بالفعل، عمليات البطش والقمع وضرب المتظاهرين من قبل هذه القوى. مشهد حاولت lbci، مع مراسلها يزبك وهبة، توريته، وغض النظر عما يحصل على الأرض من اعتقالات، وتجنب الحديث عن الممارسات الأمنية المنتهكة لحقوق الانسان، مع تركيز أكثر على أعمال الشغب وتكسير واجهات المحال في وسط العاصمة. وحدها «الجديد» كانت تركز على سلسلة الاعتقالات والضرب الذي يتعرض له المعتصمون، وتسخر من قصة «الطابور الخامس» الذي قيل بأنه دخل بين المتظاهرين وحرف الحراك عن مساره. ويبدو أن تغطية القناة لم تعجب القوى الأمنية التي طردت الفريق (رامز القاضي والمصوّر) من المنطقة الممتدة من «رياض الصلح» الى «مسجد محمد الأمين»، وإعلان المنطقة «عسكرية». هكذا، وكبديل عن فرض سياسة التعتيم، تمت الاستعانة بصور انتشرت على السوشال ميديا، وأظهرت سلسلة ممارسات لا يمكن الا أن تندرج ضمن التصرفات الميليشاوية. لعل الصورة الصادمة والأكثر تداولاً كانت لمجموعة معتقلين مقيدي الأيدي على الأرض. صورة أشعلت هذه المنصات، وشُبّهت بما تمارسه «داعش» أو المجموعات الإرهابية عادةً في التعاطي غير الإنساني والقانوني مع المعتقلين.
عتّمت lbci على بطش القوى الأمنية، ومارسيل غانم استضاف السياسيين


إذاً، عتّمت lbci على بطش القوى الأمنية، وعادت صباحاً لتركز على الخسائر المادية التي ألحقت بالمحال التجارية في «وسط بيروت» في ظلّ حديث عن «ملايين» الدولارات لإعادة إصلاحها. كان قلب «المؤسسة اللبنانية للإرسال» على الخسائر، مع ترويجها في فترة ما بعد الظهر لورقة الإصلاحات التي ينوي الحريري مناقشتها مع شركائه، كحلّ للأزمة. مسار يتناقض مع «الجديد» التي قصدت «ثكنة الحلو» في بيروت حيث أُودع المعتقلون، ونقلت وجع ذويهم المنتظرين على قارعة الطريق.
المحطة أيضاً، التي واكبت التحركات شمالاً وجنوباً وبقاعاً، وضعت في يسار شاشتها، توقيت العدّ العكسي للساعات التي اعلنها الحريري للإنقاذ. كذلك، تعرّض فريقها للطرد في صور، بعد تغطيته للحراك هناك. صور التي ما زالت من الأكثر المناطق إشتعالاً، كونها شهدت حركة مسلحة ليلاً وترويعاً للناس، عادت صباحاً ـــ وبعد إحراق منتجع «ريست هاوس» ـــ لتشهد على تظاهرتين: واحدة مؤيدة لـ«حركة أمل» «تنديداً بالمسّ بالرموز الوطنية والدينية»، وأخرى للحراك الشعبي. لكن الأخيرة لم يكتب لها البقاء، مع رفع السلاح بوجهها، وإقدام مسلحين على إطلاق النار على افرادها. فيديوات انتشرت على السوشال ميديا، بعد منع الإعلام من التغطية، تظهر دموية المشهد.

وحدها «الجديد» ركزت على الاعتقالات والضرب الذي تعرض له المعتصمون


إحراق «استراحة صور» ليل أول من أمس، أخرج nbn عن طورها. نقلت المحطة صور الاحتراق التي اجتاحت أشهر الأماكن السياحية في صور، مع تصويرها على أنها إحدى أكبر الفجائع. راح عباس ضاهر أول من أمس، يتحدث بنبرة ساخطة عن الفاعلين، وينتحب ما حصل للاستراحة، مع مبالغة واضحة في التوصيف والرسائل. المحطة التي نقلت الاحتجاجات منذ البداية، عادت وظهرت اصطفافها السياسي سيما بعد تظاهرات صور، وإحراق أعلام حزبية وصور شخصيات تخص «حركة أمل»، ونقلت تظاهرة حزبية مضادة للحراك الشعبي، تحت عنوان «التنديد بالمسّ بالرموز الدينية والوطنية». على الضفة الأخرى، كانت عين otv طيلة الفترة المسائية أول من أمس على طريق «قصر بعبدا» حيث احتشد المتظاهرون.
في المحصّلة، تغيّر التعاطي الإعلامي مع الحراك، مع إجباره في الساعات المتقدمة أمس على المواكبة الميدانية. تدّخل السلطة السياسية مستعينةً بأذرعتها الأمنية، أول من أمس، بعد كلام الحريري، كان مفضوحاً، ودلّ على مدى التلاعب بالمشهد ومحاولة وأد التظاهرات في مهدها، لصالح تقديم منابر إعلامية للسياسيين. لكن هذا الأمر لم يفلح، مع اجتياح «لعبة» أخرى يقودها الناشطون على هواتفهم النقالة، ويفضحون عبرها هذا التلاعب ويبثون ما يعتّم عليه إعلامياً.



«الجديد»... إعادة تموضع
منذ تقريرها تأخير خبر خطاب السيد حسن نصر الله في نشرة الظهيرة أمس، بدأت الإشارة واضحة على قناة «الجديد» إلى ما سيحل في المساء. للمرة الأولى، تصوب مقدمة نشرة أخبارها المسائية مباشرة على أمين عام «حزب الله». «لا كلام يعلو على صوت الشعب. لا السيد ولا الرئيس» و«خطاب السيد لا يجدي نفعاً»... عبارات تضمنتها مقدمة النشرة في هجوم واضح على كلام السيد نصر الله. وكان لافتاً في النشرة عينها فتحها الهواء للمرة الأولى منذ بدء الحراك للسياسيين من «الصف الأول». فقد حضر النائب وليد جنبلاط على شاشتها عبر اتصال هاتفي، وكان محور الإتصال ورقة سعد الحريري للإصلاحات الإقتصادية، وطبعاً رده على كلام نصر الله بما أنّ السيد ألمح اليه في خطابه كما قال له جورج صليبي.


الشبكة العنكبوتية الملجأ الأول والأخير
في الأزمات الكبرى كالتي يعيشها لبنان، سيما مع تغير أجندات القنوات الإعلامية بين ساعة وأخرى، أو التعتيم على مفاصل هامة من الحدث، يلجأ الناشطون الى الشبكة العنكبوتية للتحشيد. الحراك الشعبي الذي أشعله في الأساس المسّ بـ «الواتساب»، بدأ من خلال هذا التطبيق ودعوة بعض الشبان لبعضهم للنزول الى أن كبرت كرة الثلج وانتقلت عدواها الى باقي المناطق اللبنانية. المنصات الإجتماعية تشكل اليوم، سلاحاً أساسياً للمعتصمين في فضح ممارسات السلطة وحتى القنوات المحلية. يحتشد هؤلاء عليها لنقل نبض الشارع، تحت هاشتاغات كثيرة بدأت تتكاثر منذ اليوم الأول. أول من أمس، انتشرت صورة لمعتقلين مقيدي الأيدي ومطروحين على الأرض في مشهدية مذلة ومنتهكة لكرامة الإنسان. صورة أشعلت غضب النت، وفضحت ممارسات القوى الأمنية. ومن شدة تأثيرها راح بعضهم يزور تاريخ انتشارها، ليضلل الرأي العام، ويقول له بأنها تعود الى سنوات خلت. تزوير كشفه الناشطون سريعاً، ولم يقعوا في الفخ السلطوي. كذلك، كان لافتاً، بعد منع «الجديد» من التغطية في صور، لجوء المحطة الى إعادة بث فيديو مباشر سجلته إحدى المتظاهرات وفيه تصف ما حصل لها ولبقية زملائها من قمع وبطش مارسه مسلحون حزبيون عليهم ومنعوهم من التظاهر. ومع إصرار صفحة «الأمن الداخلي» على تويتر على بث بروباغندا عن تقديمها «المساعدة» للمعتصمين، بقيت صور كثيرة تخرج الى العلن عمّا خلفته الممارسات الأمنية على أجساد المعتصمين.