انتهت المهلة التي منحها سعد الحريري لنفسه بكلمات فارغة خيّبت من لم يصدّق بعد أن لا رجاء ولا أمل. لا منه ولا من أمثاله. وإذا كان هناك من انتظر نتيجة مغايرة، أو راهن على «تدبّر» ما قد يجبره على محاولة الاقتراب حتى لا نقول ملامسة جذور الأزمة، وتالياً، الإحاطة ببعض أسبابها، فقد تأكّد له بعد سماع الكلمة، وبالملموس، عبث الرهان وعقمه ولا جدواه.لقد كان واضحاً، ومنذ ما قبل «انفجار» الغضب الشعبي، واتساع دائرة من شملتهم، أو حرّضتهم على ترك بيوتهم والنزول إلى الشوارع، أن المهلة بحد ذاتها، وفي كل الموازين الممكنة، بدءاً من موازين السياسة والاقتصاد، لا معنى لها. وأنها مجرد أحبولة سقيمة لن تقدّم أو تؤخّر. فمن عجز طوال سنوات الحكم المباشر أو بالواسطة، عن الإتيان، أو القبول، بفكرة مخالفة، تقطع مع الماضي (البادئ منذ تسعينيات القرن الماضي) المثقل بالارتكابات والفظائع التي جوّفت الدولة وأفقرت المجتمع وعرّته، لن يستطيع أن يأتي، خلال ساعات معدودات، بما عجز، أو امتنع عنه طيلة أعوام حفلت بالفرص ومعها الإمكانات.
وهنا، يرتسم السؤال عن خلفية طلبه للوقت الإضافي الذي حدّده بـ ٧٢ ساعة: هل كان فعلاً، على ما حاول الإيحاء، للبحث عن مخارج أو «حلول»؟ الجواب: قطعاً لا. خصوصاً أن انفجار الغضب الشعبي وشكل هذا الانفجار وتوقيته الذي بدا لنا جميعاً مفاجئاً قد مثّل «ذروة» تأخرت طويلاً. وكشف عن صعوبة، بل استحالة، استمرار الناس في السكوت عن قساوة ما يعانونه من فقر مذلّ وبطالة قاتلة وانسداد أفق... وبالتالي، لم يكن خافياً على أي من أصحاب الإحساس البشري، أو حتى على ذوي الإدراك البسيط أن فرص الخروج من المأزق الذي قادتنا إليه سياسات مجرمة وعقول مريضة، ونفوس سوداء ما عادت متيسّرة بسهولة. وأن لا حياة لأية «حلول» لا ترسم خطاً سياسياً واقتصادياً، فاصلاً وقاطعاً، بين ما كان أو ما سوف يكون.
لقد أظهرت كلمة الأمس أن الأمر بمجمله كان مجرد حيلة إضافية لكسب الوقت لذاته، ولإعادة التموضع. لذلك يتأكد أكثر فأكثر أن المشكلة ليست في تواضع ومحدودية قدرات الرجل (المثبت بالوقائع والأدلّة) على الخروج من دائرة «التفكير» البسيط المسيطر عليه فحسب، وهذه من المسائل التي كان يمكن لإعمال الخيال أن يعالجها. بل في أصل الرغبة ووجودها. وهنا، ومن أجل الوضوح ليس إلا، ينبغي التأكيد على واقعة أساسية كثيراً ما نتغاضى عنها، وهي إن الرجل الذي جيء به عنوة، في لحظة تخلِ سياسي وأخلاقي ضربت البلد واجتماعه، لا يملك، ولن يملك مهما تظاهر، أن يمثل نفسه بقدر ما يمثل منظومة المصالح التي كلّفته، وبمقابل مجزِ، مهمة السهر على استمرار السياسات والمقاربات الضامنة لنهب الموارد وتعزيزها.
إنه الحارس الأمين للمصالح السوداء التي حطّمت الدولة ونهبت ماليتها وسرقت مرافقها وأرهقت المجتمع وأنتجت الفساد وعمّمت الفقر وأشاعت الجهل والأميّة وعزّزت من الطائفية القبيحة ومعها المذهبية المقيتة... وغيرها الكثير من الارتكابات والجرائم التي لا تنتهي.
الأرجح أن هناك، اليوم، في الغرف المالية والمصرفية السوداء، من قرّر التجاهل التام وقرّر أن الحفاظ على منظومة المصالح القائمة وحماية نموذجها يتقدم على ما عداه. والأرجح، أيضاً، أن هؤلاء قد قرّروا، ومارسوا، بأن لا قيمة، عندهم، لكل الآلام التي صدحت بها حناجر المواطنين الذين ملأوا ساحات البلد من أقصاه إلى أقصاه. وهو ما ترجمته، وبحرفية لا تشوبها شائبة، الكلمة البائسة التي تولى سعد الحريري تلاوتها من بعبدا.
الاستنتاج أن سعد الحريري ما بعد المهلة هو نفسه الذي كان قبلها. بل يمكن الزعم أنه سيكون، ومعه من يمثل، أشد خطورة على البلد ومستقبله. خصوصاً أنه يتابع المهمة مستنداً، هذه المرّة، إلى تفويض «الشركاء» وموافقتهم الموثقة.
إنه المعنى الخفي من مكافأة نفسه بالمهلة التي حاول تسويقها باعتبارها صحوة مسؤول وتعبيراً عن ضيقه بالأحوال ونفاد صبره من عرقلة الشركاء. لقد أظهرت كلمته وما تضمنتها من إصرار على متابعة السير في السياسات السابقة أن إمهاله لنفسه كان هدفه، إلى التقاط الأنفاس، التحضير لمعاودة الهجوم على الناس ومكتسباتهم المتبقية لهم. بل ومعاقبتهم على التظاهر وفكرة الخروج عن الطاعة. وهو ما تقوله بنود ما أسماه زوراً بـ «الإصلاحات».
في السياق، وأمام هذا الواقع الذي يرسمه إصرار الحريري ومن معه على المضي في السياسات نفسها، يصير من الضروري دعوة المتظاهرين إلى الحفاظ على الفرصة التي جعلت من اجتماعهم ممكناً. ولفتهم إلى وجوب تشديد البقاء في الشارع والتشبّث به كسبيل لا سبيل غيره، أقله في المدى المنظور، لفرض القطع مع السياسات القاتلة وهو ما يصبّ حكماً في مصلحة الناس، كل الناس. ويضاف إن من شأن البقاء في الشارع أن يعيد تشكيل الصورة التي جرى تغييب الناس عنها. وسيؤكد على أن وعي الناس قد قطع المسافة اللازمة نحو الانتباه إلى أهمية الفعل السياسي الشعبي الخارج عن القواعد التي سنّتها مصالح أمراء الطوائف. وسيعيد لهم حقهم بالمشاركة في صوغ السياسات العامة ومراقبتها ومن ثم المحاسبة عليها.
ومن اللازم أيضاً التّنبه إلى ما يحاك في الغرف السوداء نفسها. لجهة البناء على الكلمة واعتبارها المظلة المطلوبة والمنتظرة لمطالبة الناس بالعودة إلى البيوت تحت طائلة القيام بعمل أمني وعسكري. لأن من شأن البقاء في الشارع أن يقود إن عاجلاً أو آجلاً إلى كسر المعادلة السلطوية القائمة على الاحتكار شبه الكامل للسياسة ولميادينها المختلفة. والتي يشكل الشارع أحد أبرز الميادين المؤثرة إن لم تكن الحاسمة.
إن خطاب العودة هو، في جوهره، تجديد وتأكيد على الاستمرار في سياسات التنصّل من المسؤوليات والتحلّل من الواجبات وإشارة عناد على المتابعة في السياسات والمقاربات المدمرة نفسها. ورسالة احتقار شخصي وجهت إلى كل لبناني ولبنانية منحوا لأنفسهم حق الحلم بوطن عادي لا علاقة له لا بوطن الرسالة ولا بغيرها...