هل هي لحظة عابرة ان تصدف الذكرى الثلاثين لاقرار النواب اللبنانيين اتفاق الطائف (22 تشرين الاول 1989) في السعودية، في يوم مطالبة الشعب اللبناني باسقاط الطبقة السياسية - وشركائها الجدد منذ عام 2008 - المنبثقة من هذا الاتفاق؟ هل هي مصادفة ايضاً ان يأتي هذا اليوم، منذ 17 تشرين الاول 2019، كي يفصل بين اتفاق الطائف والطبقة السياسية التي اختبأت وراءه كي تقول انها هي - وليس الاتفاق - صمام امان الحؤول دون العودة الى الحرب الاهلية؟ هل هي مصادفة ايضاً وايضاً ان لا يعثر الشارع اللبناني على سياسي لا يهينه ويُشهّر به ويريد الانقلاب عليه - مع انه ناخبه - والاقتصاص منه وسجنه حتى، كما لو ان الذين حكموا لبنان منذ اتفاق الطائف ليسوا سوى «قطاع طرق» و«فاسدين» و«ناهبي مال عام»؟ ثم هل هي مصادفة ان انفجار الشارع يسبق، بأسبوع فقط، انقضاء نصف ولاية الرئيس ميشال عون (31 تشرين الاول)، كما لو ان العصيان يؤذن سلفاً ليس بتقويض ما تبقى من الولاية، بل ايضاً بتجريد الرئيس الوحيد منذ اتفاق الطائف الذي قادته شعبيته ونضاله وحيثيته السياسية الى رئاسة الدولة؟
(مروان بوحيدر)

ما خلا حزب القوات اللبنانية الذي آثر الانسحاب من حكومة الرئيس سعد الحريري في عزّ الصدام بينها والشارع، فبدت مغادرته السلطة هامشية ثانوية لم تُضف الى العصيان الشعبي ولم تضعف الحريري، فإن الساعات القليلة المقبلة وحدها كفيلة بأن تظهر اياً من الفريقين بات الآن قادراً على ليّ ذراع الآخر، واخراجه من المعادلة المستجدة: اللبنانيون في الشارع، أم ائتلاف السلطة الحاكمة المستمرة منذ عام 1992 والمستمدة من الحقبة السورية مضافاً اليها التيار الوطني الحر. على طريقة بيانها الوزاري، حبراً على ورق، كررت حكومة الحريري البارحة تعهداتها بالاصلاح ومكافحة الفساد والاهدار، لكنها اكدت في الوقت نفسه تماسكها وصلابة ائتلاف قواها، ومقدرتها على مواجهة الشارع اللبناني بتجاهل مطالبه، وإن مستعصية في جانب منها واكبر من قدرة البلاد نفسها على احتمالها. اما المحتجون فأكدوا تشبثهم بالبقاء في الشارع. ادلت حكومة الحريري بآخر ما عندها واقصاه، من غير ان يكون التمسك بالساحات المفتوحة آخر طلقات الاحتجاج.
بضع نتائج اولى افضت اليها الايام الخمسة من الانتفاضة الشعبية:
اولاها، توجيه ضربة قاسية الى التسوية التي ارست عام 2016 ولاية عون بكل قواها ومقوماتها المرتكزة ليس على تقاسم السلطة فحسب، بل ايضاً وخصوصاً على اقتسام الاقتصاد اللبناني بتوزيع قطاعاته ومنشآته ومرافقه على فريق التسوية تلك، الى حد لم يعد احد «يشبع» - وهي عبارة استخدمها مرجع رسمي لم ينجُ من التعرّض اليه - من نهب المقدرات والمال العام والاهدار ووضع اليد على الادارة. يتعيّن ان يتحمّل وزير الخارجية جبران باسيل كلفة انهيار التسوية بعدما حمّلها، مقدار ما حمّل نفسه بصفته الوزير الاول الشريك والمفاوض الفعلي لرئيس الحكومة، اكثر مما في وسعها تحمّله. ليس قليلاً هذا الكمّ الكبير من التشهير والاهانات واللعنات الموجهة اليه في الشارعين المسيحي والاسلامي، اذ وضع نفسه في صدارة العهد واظهر انه صاحب القرارات و«ناظر» الدولة برمتها، واستعجل الاستحقاقات المؤجلة.
ثانيها، مع ان الحريري ليس وحده المسؤول عن الانهيار الحاصل، ولا يسعه ان يكون كذلك ما دام تبعاً لتسوية 2016 ارتضى ان يكون الاول بين متساوين، يملك الفيتو الذي يملكه شركاؤه في السلطة الاجرائية، الا انه الآن امام امتحان بالغ الصعوبة: الاقرار بدفن الحريرية السياسية التي أنشأها الرئيس رفيق الحريري منذ عام 1992 في السياسات الاقتصادية بكل تشعّبات رهاناتها المحلية والاقليمية، والتسليم بتقويض آخر ما كان يمكن ان يربطه بما تبقى من الارث السياسي الذي انتقل اليه من والده. لم يعد كأبيه، تقترن الثروة بمقدرته على الحكم وممارسة الصلاحيات الدستورية، وكذلك جدوى علاقاته الاقليمية والدولية. ما خلا فرنسا التي لا تزال - وإن بتحفظ - تحتضنه باسم سمعة الحريري الاب، فقد الابن تماماً الظهير العربي الذي تسلّح الرئيس الراحل من خلال السعودية وسوريا، ونجح طوال ثلاثة عقود (1984 - 2004) في ان يكون محاوراً ومفاوضاً باسميهما في لبنان كما مع الغرب.
بات الحريري الابن امام استحقاق جديد في ثاني امتحان صعب له في سنة ونصف سنة فقط: بعدما خذله ناخبوه في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع الغربي في انتخابات 2018، لا يكتفون بالتخلي عنه، بل يدعونه من تلك المناطق التي عدّها حصونه المذهبية الى التنحي للفور ومغادرة الحكم. يتعين على الحريري الابن من الآن فصاعداً ان يكون رئيساً لحكومة يحكمها الائتلاف وليس الصلاحيات، ويضمن استمراره على رأسها حزب الله وليس سجل الرجل ولا ارث حريرية سياسية خائرة.
هل يستعيد الاموال المنهوبة المتهمون بنهبها؟


ثالثها، استمرار فشل الرهان على خروج الاحتجاج من الشارع، والتعويل على عامل الوقت لإنهاك المحتجين دونما حصولهم على اي المكاسب التي ينادون بها. بيد ان صمود هذا الشارع افسح في المجال امام تبدّل المعطيات، فلم يعد في وسع الحلول المقترحة في اليوم الثاني للانتفاضة ان تكون صالحة بانقضاء اربعة ايام على استمرارها بالزخم نفسه. في اليوم الثاني للغضب الشعبي في 18 تشرين الاول، وعد الحريري اللبنانيين باصلاح جدي، فلم يُصغَ اليه في الغداة ما فاقم حركة الاحتجاج. في اليوم الثالث 19 تشرين الاول عندما تحدث الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن لاءاته الثلاث الرافضة لاسقاط رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان الحالي، إذا ألوف اللبنانيين يتجاوزون المحظور الذي تحدث عنه، ويصرون على تنحي السلطات كلها، رغم الاخطار التي يفصح عنها فراغ شامل كهذا. مع ان نصرالله تفهّم احتجاج الشارع وبدا اكثر صدقية مما خاطب به الحريري ومن قبله باسيل حيال الاصلاح، الا ان الغضب الشعبي لم يزل غير مقتنع بصواب تخويل الفاسد مكافحة الفساد، ولا وضع الاصلاح بين يدي الخصم والحكم في آن. في اليوم الخامس امس، بعد جلسة الحكومة، كمنت سخرية المعادلة الجديدة: يستعيد الاموال المنهوبة اولئك الذين يتهمهم اللبنانيون بنهبها.
رابعها، ان توازن الخيارات الاستراتيجية المتناقضة لم يعد كافياً لضمان استقرار البلاد، من دون اقران هذه الخيارات بأخرى مرتبطة باستقرار المجتمع بالذات وليس ضمان مصالح القوى السياسية فحسب. لم تأبه الاحتجاجات بسلاح حزب الله ولم يُثرها على طريقة انقسام الافرقاء السياسيين عليه. لم تبدُ معنية بالنأي بالنفس، ولا بسوريا وحربها، ولا بالسياسة الخارجية للبنان وعلاقاته العربية، ولا عدائه لاسرائيل وانقسام الموقف من النظام السوري. فإذا كل صرخات الاحتجاج ارتبطت بالمعاناة المعيشية لاصحابها في كل ما يتصل بحياتهم اليومية. على نحو كهذا اعطى الشارع اشارة بالغة الاهمية الى انه، هو بدوره، جزء لا يتجزأ من الاستقرار وضمانه.