في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، لجأت الحكومة إلى محاولة إيهام الناس بأنها ستفرض ضرائب على المصارف بدلاً من أن تفرضها على الفقراء، وتستعمل الناتج منها في خفض خدمة الدين العام، وأنها لن تصرف النظر عن صرخات الوجع والفقر المدقع من أناس يطالبون بأدنى حقوقهم الأساسية من غذاء وسكن واستشفاء وتعليم… نقلت الحكومة جزءاً من كلفة خدمة الدين من الخزينة إلى مصرف لبنان حيث يسهل إخفاؤها وتخبئتها في مؤسسة تخفي نتائجها السنوية.هذا المسار بدأ منذ بضعة أيام وخضع للتفاوض بين أطراف السلطة، إلى أن أعلنها رئيس الحكومة سعد الحريري بعد انتهاء جلسة مجلس الوزراء أمس. فقد تلا الحريري بياناً تحدث فيه عن إقرار مشروع موازنة 2020 بعجز 0.63% (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) في مهلة أقصاها 25/10/2019، على أن يتحقق ذلك من خلال عدد من الإجراءات المتصلة بخفض النفقات وزيادة الإيرادات. من أبرز هذه الإجراءات «مساهمة مصرف لبنان بخفض خدمة الدين العام لسنة 2020 بنسبة 50% (4500 مليار)، على أن يتابع رئيس مجلس الوزراء الإجراءات التنفيذية مع وزير المال علي حسن خليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وفرض ضريبة دخل استثنائية على المصارف لسنة واحدة في عام 2020 بما يؤمن مبلغ 600 مليار ليرة».
بحسب معطيات موثوقة، فإن الشق الأول من هذه العملية المتعلق بتوفير مبلغ الـ4500 مليار ليرة، سينفذه مصرف لبنان والمصارف بعدما تعهد سلامة للحريري بأن يقوم بنوع من «الهندسات» على محفظة مصرف لبنان من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي يحملها، ما يوفّر على الخزينة مبلغ 3600 مليار ليرة من خدمة الدين. كذلك تبيّن أن المصارف وافقت على التخلّي عن جزء من فوائد سندات الخزينة التي تحملها في محفظتها، ما يوفّر 900 مليار ليرة من خدمة الدين العام في 2020.
بمعزل عن آلية تنفيذ هذه «العملية»، فإن نتيجتها واحدة: نقل الدين الناتج عن تسديد فوائد سندات الخزينة بالليرة، من وزارة المال إلى ميزانية مصرف لبنان، أي إن الخسائر التي يسجّلها مصرف لبنان في ميزانيته ستزداد بقيمة 3600 مليار ليرة. وهذا النوع من العمليات «التجميلية» حذّر منه صندوق النقد الدولي في تقرير البعثة الرابعة الأخير، مشيراً إلى أنه يقوّض مصداقية مصرف لبنان. بمعنى آخر، إن ميزانية مصرف لبنان لم تعد تتحمّل أعباءً إضافية، «وكلام صندوق النقد هو الذي منع سلامة من تنفيذ العملية التي تعهد وزير المال علي حسن خليل أمام مجلس الوزراء بتنفيذها مع مصرف لبنان في 2019، والقاضية باكتتاب مصرف لبنان بسندات خزينة بقيمة 12 ألف مليار ليرة بفائدة 1%»، يقول مصدر مطلع.
مثل هذه الخيارات لا يمكن أن تعدّ خيارات إصلاحية. فبحسب الخبير المالي توفيق كسبار، إن «التوفير سيكون لسنة واحدة، ما يعني أن السؤال الأساسي هو ماذا سنفعل في السنة التالية؟ هذا يعني أن استعادة مشروع زيادة الضرائب سيكون جاهزاً في 2021. إذا كانوا خائفين من زيادة الضرائب، فإن مجال خفض النفقات في السنة التالية بات محدوداً جداً بعد كل الخفض في 2020». ويشير كسبار إلى أنه يجب عدم إغفال ما قاله الرئيس الحريري «هذه السنة ليس هناك ضرائب»، وهو لم يذكر أي شي عن السنة التالية.
ولأنها تمتدّ على سنة واحدة «فهي لا تؤمّن حلّاً مستداماً، حتى لو كانت تشكّل بداية جديدة للتفاوض مع المصارف ومصرف لبنان على مساهمتهما في عملية التصحيح المالي»، على حدّ تعبير أحد الخبراء المعنيين.
كسبار يشير إلى أن مصرف لبنان «يسجّل خسائر في ميزانيته منذ عام 2002، وستزداد خسارته أكثر. لم يعد لديه ما يخسره، علماً بأن هاجسه هو المطلوبات والموجودات بالدولار وليس بالليرة اللبنانية».
ضريبة على المصارف لسنة واحدة بعدها تعود الحكومة إلى فرض الضرائب


خطوة خفض الدين العام عبر مساهمة مصرف لبنان والمصارف، إلى جانب موافقة المصارف على تسديد ضريبة أرباح استثنائية بمعدل 25% ستؤمّن للخزينة مبلغ 600 مليار ليرة، جاءت متأخرة. «الإجراءات التي وردت في الورقة هي إجراءات جيدة إذا وضعنا الحالة الراهنة جانباً، لكنها اليوم جاءت متأخرة كثيراً، وردّ فعل الشارع راغب في إطاحة الحكومة»، يقول كسبار.
الخديعة أن تقوم الحكومة بهذه الخطوة اليوم، وأن تكون خطوة مؤقتة لا تشكّل حلاً مستداماً، وأن تكون ضئيلة جداً. فبحسب الخبير الاقتصادي كمال حمدان، إن «مساهمة المصارف بقيمة 900 مليار ليرة من فوائد سندات الخزينة، وبقيمة 600 مليار ليرة من الضريبة الاستثنائية على الأرباح، أي ما يساوي 1500 مليار ليرة (مليار دولار)، ليست إلا 20% من أرباح المصارف من الهندسات المالية المنفذة في 2016». ويشير حمدان إلى أنه «كان يجب اقتطاع نصف أرباح المصارف السنوية وجدولة استعادة قسم من الأرباح المحققة بشكل استثنائي من الهندسات المالية، حتى لا تكون هذه الإجراءات متقدمة في الشكل والظاهر فقط».



أسواق العملة والسندات: إقفال وتراجع
على جانب آخر من الأزمة المالية، لا تزال المصارف ومؤسسات الصرافة مقفلة لليوم الرابع على التوالي بسبب قلقها من فتح فروعها وسط تهافت المودعين على سحب ودائعهم، ما سيسبب ضغوطاً كبيرة عليها، وقد يتطوّر إلى ما هو أخطر من ذلك. وفي السياق نفسه، كانت أسعار سندات اليوروبوندز بالعملات الأجنبية المتداولة في الأسواق الدولية، تسجّل تراجعاً في قيمتها يوم الجمعة الماضي تراوح بين نقطتين مئويتين وثلاث نقاط ونصف، وقد استمر هذا التراجع يوم أمس لتسجّل الأسعار الآتية: تراجعت أسعار السندات التي تستحق في 2021 من 86.7 دولاراً يوم الجمعة إلى 81.9 دولاراً يوم أمس، وتراجعت أسعار السندات التي تستحق في 2029 من 67.4 دولاراً إلى 65.1 دولاراً، وتراجعت أسعار السندات التي تستحق في 2037 من 68 دولاراً إلى 65 دولاراً.