خمسة شبان من الذين يتظاهرون يوميا في بيروت وخارجها. خريجون وطلاب، ومنهم من يعمل. لا تجمعهم السياسة ومن طوائف مختلفة. ولم يكونوا ينتظرون الحدث ليبقوا على تواصل. لكنهم، قبل قرارات الحكومة وبعدها، لا يشعرون بأن هناك ما يوجب عودتهم الى المنازل. العطلة بالنسبة لهم ليست هروباً من واجب مدرسي، او راحة من عمل شاق. بل هي التعبير الحقيقي والصورة الواقعية عن حالهم. حيث المشكلة في الامل، وفي توقع ايام حلوة قادمة.لم يكن ممكناً اقناع هؤلاء، ومعهم عشرات الالوف من الشباب والصبايا، والاهل ايضا، بأن ما قامت به الحكومة هو محاكاة لمطالبهم. وربما كان سعد الحريري مساعدا لهم عندما قال إن ما اقرته الحكومة هو ما كان يطالب به نفسه منذ عامين. عملياً، اقر الحريري بأنه استفاد من غضب الناس للانتصار على خصومه / شركائه في الحكم. قام بالمناورة الكبيرة. هدد برسوم وضرائب، ثم تراجع عنها. لكنه ثبّت وجهته الاقتصادية والمالية ونظرته الى الدولة. ثبّت وجهة الخصخصة وبيع ما تبقى من ملكية عامة. وثبّت ربط مصير العملة الوطنية بعطف المصارف و«حبها لبلدها». وقرر رهن التقديمات الاجتماعية بوقف الانفاق الاستثماري. قال للناس ان بعض ما تملكونه وتعتبرونه شبه ناجح، سنعرضه للبيع. من هاتف وشركة طيران وشركة الريجي والكازينو...
يعرف الحريري ان ما اقر ليس سوى غيض من فيض. وان ما يطلبه الناس ليس عناوين وشعارات، ولا حتى قوانين وقرارات. ما يريده الناس هو ضمانة التنفيذ، وحسن التنفيذ. وهنا المشكلة. لا سيما أن غالبية ساحقة من المتسلطين على الحكم اليوم ليسوا محل ثقة احد. وهم اثبتوا خلال ثلاثة عقود، انهم اصل البلاء والمشكلة. لذلك، فإن السلطة معنية، هذه المرة، بالسير في مشاريع وقوانين من خارج اجندتها. وهذا لن يحصل الا بضغط الشارع. لا يصدق الناس ان هذه السلطة واركانها سيتغيرون خلال اسبوع فقط. وليس بيد الناس اي ورقة ضغط لدفعها للشروع في تغيير يصل الى مرحلة مغادرتها المواقع. واذا كانت احزاب السلطة قوية ولديها قواعدها الشعبية الحقيقية، فإن ما شهده لبنان هذه الايام، هو انفكاك مجموعات كثيرة عن هذه القوى. لقد حصل انشقاق حقيقي واهتزاز كبير. وهو امر لن يكتمل على شكل تغيير سياسي بين ليلة وضحاها. لكنه تعبير عن ان بقاء السلطة يعني ان الناس تعرضت لقمع حقيقي. وفي حال قمع التحرك، سنجد انفسنا قريبا امام شكل جديد من الاعتراض الاهلي... عندها، لن يتجمع الناس في الساحات، لكن النار ستلتهم كل شيء. وعندما تلجأ السلطة الى القمع دفاعا عن مصالحها، فهي لن تجيد حتى التمتع بما تسرقه من جيوب الناس. وما جرى من مواجهات ولو جزئية بين متظاهرين وبين زعران السلطة، فيه اشارة قوية الى ان المحبطين قد يجدون انفسهم في لحظة واحدة، امام الجدار، وليس في مقدورهم الا اللجوء الى العنف وسيلة وحيدة لتحقيق الاهداف.
ليس بيد الناس سوى البقاء في الشارع، لكن مع عقل بارد يعرف تنظيم المرحلة المقبلة


ما قررته الحكومة أمس يمثل خطوة متقدمة بالنسبة لقوى كثيرة في لبنان. لكنه لا يشكل الا القليل في مواجهة المشكلة الكبيرة التي تواجه البلاد. السلطة تهرب من الاجابة على سؤال بسيط: اين ذهبت الاموال التي انفقت على مدار ثلاثة عقود في الدولة وجوانبها؟ كيف افلست الدولة وظل اهل السلطة في حالة غنى ونعيم؟ هذه المسؤولية ليست عامة ومطلقة. هي مسؤولية واضحة. والمحاسبة توضح من هو السارق الفعلي. اما الاموال المنهوبة، فمعروفة اين توضع. عقارات او شركات او حسابات بنكية في لبنان وخارجه.
ما قررته السلطة، أمس، يجعل الخطر على بقية املاك الدولة اكبر من قبل. ما الذي يمنع الحريري ورفاقه في الحكم من الخروج بعد شهور، او السنة المقبلة، على الناس ليقولوا ان الاموال التي تم تحصيلها من الخصخصة غير كافية، ولا بد من بيع املاك اضافية للدولة؟ ومن يمنع ان يخرج غدا من يقول ان حماية سعر الليرة يحتاج الى بيع الذهب؟ ومن يمنع ان يستفيق اللبنانيون ويجدوا أن حكومتهم باعت النفط قبل استخراجه؟
السؤال الذي يهرب منه الجميع، خصوصا اهل السلطة، هو في كيفية انتاج ادوات حكم تقنع الناس بمنحهم فرصة جديدة. هذا يتطلب تغييرا في آليات العمل وفي الاشخاص ايضا. وهي عملية لن تقتصر على رجالات الحكم، بل يجب ان تطال جميع الادوات السياسية والاعلامية والاقتصادية والاجتماعية. وهو تغيير يتطلب مغادرة السلوك الحالي برمّته. يتطلب قرارات تمنع الناس من شراء ما لا قدرة لهم على شرائه. وتمنع الناس من الاقتراض لمماشاة سياسة استهلاك قررتها مجموعة من اصحاب الاحتكارات المسيطرة على الاقتصاد، ثم تحول أركانها الى نواب ووزراء ورؤساء.
ما حصل يوم أمس إشارة ايجابية لمن يريد تسوية تمنع الانهيار العام. لكنه اشارة سلبية الى من يدرك ان اركان النظام الطائفي يستعدون لجولة جديدة من القمع والسرقة. هؤلاء اهتزت ركبهم في الايام الماضية، وانتشر مسلحوهم حول منازلهم خوفا من الناس، وبعضهم جمع اوراقه استعدادا للسفر. وهذا يعني، مع بشائر الليلة الماضية، اننا مقبلون على موجة قاسية من القمع المباشر وغير المباشر. حتى الجيش وقوى الامن التي لم تكن بعيدة عن لعبة استغلال التحرك، ستعيد التموضع خلف السلطة وتمارس ابشع صنوف القمع بحق الناس. وليس بيد الناس من حيلة سوى البقاء في الشارع مع كل غضبهم، لكن مع عقل بارد يعرف تنظيم المرحلة المقبلة من مواجهة لن تنتهي فصولها قريبا!