لا يوجد من ينكر أن مطالب الجماهير التي خرجت إلى الشارع محقة. والكل يدرك أن الناس منقسمون بين من خرج بسبب هذه المطالب لأنها تكتوي بنار الفقر والغلاء، ومن يستغلون هذه المطالب لمآرب سياسية.ما حدث في الساحات منذ أيام ليس ثورة، كما يحلو للبعض أن يدّعي، بل حراك جماهيري ناتج عن أزمات تعيشها الجماهير، لأن الثورة أمر أبعد من هذا الحراك ولها شروط غير متوفرة فيه. للثورة أركان منها القيادة الواضحة والبرنامج الواضح والوعي الذي يحرّك الجماهير لعدم تضييع الأهداف، لتنتهي بدل أن تخدم أهداف ثورتك بخدمة أهداف أعدائها، وتستبدل سلطة فاسدة بأخرى أفسد.
الوعي أمر مطلوب كي ندرك خلفيات ما يحدث اليوم. ولا يجوز عزل ما يحصل عن السياق التاريخي المتصل به، لذلك نعرض لبعض الأمور التي شكّلت منطلقاً لما وصلنا إليه اليوم.
أولاً: من الواضح جداً أن الولايات المتحدة تشعر بغضب عارم من سلسلة الفشل الذي وقعت فيه في المنطقة من خلال هزيمة مشاريعها في العراق واليمن وسوريا ولبنان، وآخرها فشل صفقة القرن المتعلقة بقضية فلسطين المركزية. وعلى صعيد لبنان، فإنها تشعر بغضب أكبر نتيجة عدم قدرتها على تحجيم حزب الله. بل انها تأكدت من خلال مبعوثين عدة أن دور الحزب أصبح أكبر في الساحة اللبنانية، وأنه ممسك بالقرار السياسي، وأكثر من ذلك فإنها عندما طالبت جماعتها بالوقوف في وجهه تهرّبوا، لا لعدم قناعتهم بذلك بل لعدم قدرتهم عليه.
ثانياً: اعتبرت الولايات المتحدة أن ما يساعد حزب الله على الصمود وفشل الإجراءات التي تقوم بها في إضعافه هو الانسجام السياسي الكامل بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر ما شكل غطاءً كبيراً له وداعماً أساسياً. ولم يكتفِ التيار الوطني الحر بالتأكيد والمساندة بل تبنى الخيارات الأساسية للمقاومة محلياً وإقليمياً، فطرح رئيس الجمهورية من على منبر الأمم المتحدة عودة النازحين إلى سوريا مخالفاً قراراً حاسماً للولايات المتحدة والأوروبيين بإرجاء ذلك إلى ما بعد التسوية السياسية. وتكامل ذلك مع طرح وزير الخارجية جبران باسيل لموضوع عودة سوريا إلى الجامعة العربية وعودة النازحين السوريين في جلسة معلنة مخالفاً بذلك قراراً أميركياً واضحاً بإبقاء سوريا خارج الجامعة.
ثالثاً: بعد سلسلة الفشل للولايات المتحدة والمواقف الثابتة لمحور المقاومة في المنطقة ولحزب الله وحليفه التيار الوطني الحر محلياً، ابتدأت هجمة منظمة وكبيرة على العهد ممثلاً بالرئيس عون وعلى التيار ممثلاً بباسيل، طرفاها الأساسيان القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وعنوانها تحميل العهد مسؤولية الأوضاع الاقتصادية والنقدية والاجتماعية الحاصلة.
إن المنطق الذي انطلق منه العهد في المسألة السورية يصب في مصلحة لبنان باعتبار سوريا هي الرئة الاقتصادية لهذا البلد، ومن دونها لن نحقق مصالحنا الاقتصادية في تجارة الترانزيت ومشاركتنا مستقبلاً في فرصة مهمة في إعادة بناء سوريا. بل إن قرار فتح الباب أمام إعادة العلاقة مع سوريا إلى طبيعتها هو رد فعل طبيعي على الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة وعملاؤها العرب.
بناءً لما تقدم سجلت عدة ردود فعل:
أ‌ - لم يقم رئيس الحكومة سعد الحريري باتخاذ الموقف المطلوب منه أميركياً وخليجياً بالهجوم على كلام الرئيس عون والوزير باسيل، بل اكتفى بالقول إن زيارة وزير الخارجية لدمشق شأن حزبي وشخصي، واعتبر أن مواقفه في الجامعة العربية ليست واردة في البيان الوزاري، وهو موقف لم يعجب الاشتراكي والقوات وقطعاً لم يعجب أميركا والسعودية والإمارات.
ب‌ - أمام الأزمة الاقتصادية المتردّية وتلافياً لانعكاسات هذين الموقفين عقد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لقاءين مطولين مع باسيل ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية بما أكد أن حزب الله لن يترك العهد وحده أمام هجمة منظمة يظهر أنه بُدئ الإعداد لها، وقد نبه سماحته إلى أنه صحيح أن القرارات الدولية لا تريد أن تذهب بالبلد إلى الانهيار لأنها تعتقد أن المستفيد سيكون حزب الله وبالتالي لن يكون الانهيار خارجياً، إلا أن البعض اللاهث وراء السلطة سيعمل على الوصول إلى الانهيار في الداخل وقد ظهرت مؤشرات على حراك يجري الإعداد له.
ج - يدرك حزب الله، كما كل مراقب منصف، أن الأمور وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم لا بسبب هذا العهد إنما بسبب مسار امتد ثلاثين عاماً.
د‌ - سجل في هذا الإطار ما أعلنه سفير روسيا في لبنان الكسندر زاسبيكين عن أن هناك خطة أميركية لإحداث الفوضى في لبنان. والفوضى كما يريدها الأميركيون هدفها ضرب حزب الله في لبنان ومن خلفه خصوم أميركا في المنطقة.
أمام هذه الوقائع ما الذي حصل على الأرض؟
أولاً: أطلق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الشرارة الأولى لتحريك الشارع بالاتجاه الذي وصل إليه من خلال قراراته التي أدت إلى اختفاء الدولار من السوق وتهديد المواطن بلقمة عيشه وبالسلع الأساسية، ومنع المصارف من إجراء تحويلات من اللبناني إلى الدولار ما جعل هناك سعرين للدولار، واحد في نشرة مصرف لبنان والثاني عند الصرافين يخضع لميزان العرض والطلب ووصل بعض الأحيان إلى 2000 ليرة مقابل الدولار الواحد.
ثانياً: جاءت الحرائق التي هناك شكوك كبيرة بأنها مفتعلة ولم تقم الأجهزة الأمنية إلى اليوم بإخبارنا عن نتيجة تحقيقاتها، ليزداد غضب المواطنين على دولة لم تقدم لهم شيئاً.
ثالثاً: القشة التي قصمت ظهر البعير كانت إعلان وزير الاتصالات محمد شقير عن الرسم على مخابرات الواتس أب ليكشف لاحقاً أن هذا الأمر كان اقتراحاً من أحد وزراء القوات وإن كان هو بنفسه قد قام بفضيحة مماثلة سابقاً تتعلق بشراء مبنى أحد شركتي الخليوي.
عندما ننظر إلى هذه الأمور ونضيف عليها أموراً أخرى أعلن عنها على الشكل التالي:
أ‌ - الإعلان عن غرفة عمليات في سفارة الإمارات العربية المتحدة لمواكبة الأحداث.
ب‌ - إجلاء الرعايا السعوديين فجراً ما يدل على أن لديهم معلومات أو أنهم مساهمون في فوضى ستحصل لاحقاً.
ج- كلام الولايات المتحدة عن الطلب من لبنان القيام بإجراءات تؤدي إلى ضخ مليارات من الدولارات إلى لبنان. فما هي الإجراءات التي تجعل من هذه الدولة المعادية للمقاومة تسمح بإرسال هذه المبالغ سوى التضييق على المقاومة وحصارها.
د- استمرار المصارف بالإضراب كي تكون أداة في تعميق الأزمة عند إعادة فتحها نتيجة التهافت عليها.
هـ - تحويل أهداف الحراك من مطالب اقتصادية إلى مطالب سياسية لمصلحة المحور الصهيوأميركي من قبيل نزع سلاح المقاومة أو إدخال لبنان تحت الفصل السابع من قبل مجلس الأمن الدولي.
و - مع تقديم ورقة إصلاحية مقبولة إلى حد ما مع اعتراضنا على بعضها من قبيل الخصخصة وحصر الضريبة على المصارف بسنة واحدة وأمور أخرى، استمر التحريض لاستمرار الحراك لأن المطلوب الأوضح لهذا الحراك لم يتحقق وهو حصار المقاومة والضغط عليها.
ز - اعتماد سياسة الولايات المتحدة التي دفعت لها الملايين من الدولارات سابقاً وهي تشويه صورة رموز المقاومة وعلى رأسهم السيد نصر الله بمساواته بالفاسدين والسارقين الأمر الذي يؤدي إلى إصابة هدفين بحجر واحد: أولاً الإساءة إلى رمزية هذا القائد الكبير، وثانياً إدخال البلد في آتون حرب أهلية.
كل ذلك يجعلنا نقول إن الوعي يفرض علينا طرح الأمر من منظار واقعي متفهم لمعاناة الجماهير ولمخططات الأعداء وذلك من خلال:
1- إعطاء فرصة للحكومة كي تنفذ ورقتها الإصلاحية مع البقاء في الساحات دون قطع الطرقات لنعود ونطور الحراك فيما لو أخلّت الدولة بما وعدت به.
2- الدخول في نقاشات واعية بين المتظاهرين لإنتاج برنامج إصلاحي شامل وقيادة منتخبة تتولى إدارة الحراك والحوار مع العهد ممثلاً بشخص رئيس الجمهورية والحكومة.
3- الإعلان بشكل واضح أن الهدف من وراء هذا الحراك هو الوصول للقضايا المطلبية وأن لا مطالب أخرى ذات طابع سياسي.
4- البدء بمحاكمات واضحة وعلنية لكل متهم بالفساد مع قانون يصدر عن مجلس النواب يؤكد أن لا حصانة على أحد في ما يتعلق بسرقة المال العام، واستعادة الأموال المنهوبة والوقوف في وجه أي تغطية مذهبية أو طائفية للمرتكبين الذين لا يمثلون الدين أو المذهب، بل هم لصوص يستحقون العقاب العادل.
5- إلزام حاكم مصرف لبنان بإعادة التحكم بسعر الدولار مع توحيده بين المصارف والصرافين. وإذا لم يذعن فليطلب من الحاكم الاستقالة أو إقالته من منصبه، وفتح ملفات القروض التي قدمها مصرف لبنان وكذلك المساهمات والدعم والمحاسبة على أساسها.
* رئيس الهيئة الإدارية
في تجمع العلماء المسلمين