يقول الأب الراحل سليم عبو، في خطاب له عام 2003، «إن ألدّ أعدائنا كامنٌ فينا، وهو متجسّد في إغراء الرضوخ للأمر الواقع. وفي حالتنا الراهنة، إن كان ثمّة موقف ينبغي أن نقاومه فهو الرضوخ للأمر الواقع. فلا ندَع طعم الحرية يفسد فينا».يمكن إسقاط كلمات عبو التي كانت مبنيّة على الحالة الداخليّّة إبان الوجود السوري، والمطالبة بالحرية والاستقلال، على ما تشهده الساحات منذ عشرة أيام، ولو لأسباب مختلفة في عناوينها، لأن ما يجري شكّل تجربة حيوية ورائدة لم يشهدها المجتمع اللبناني منذ سنوات طويلة في عدم الرضوخ للأمر الواقع. وهي التجربة التي جعلت الجامعة الأميركية وجامعة القدّيس يوسف تجتمعان على «حث السلطات اللبنانية للاستجابة لمطالب شعبنا». فيما جاءت رسالة المدير الإقليمي للرهبنة اليسوعية الأب داني يونس لتعيد، بعد بيان بكركي، وفي ظل غياب رهبانيات مارونية فاعلة عن الحدث، وكلامه عن مواكبة روح التغيير ومعاناة «شعبنا ورغبته في بناء لبنان الجديد، مئة سنة بعد إعلان لبنان الكبير»، لتضيف روحاً اجتماعيةً صافية خارجة عن محاولات سياسية وإعلامية لوضع اليد على التظاهرات الشعبية.
فالمشهد الجميل الذي يقدمه آلاف المتظاهرين، المحتشدين منذ الخميس 17 تشرين الأول، من المقهورين والجائعين والفقراء والعاطلين عن العمل، والمتضامنين معهم، من طلاب جامعيين وفنانين ملتزمين ومثقفين وطلاب جامعيين وعمال وموظفين، والمطالبين بكرامة العيش، مشهد مهدد بالسرقة. لو كان قانون حماية الملكية الفكرية فاعلاً، لكان يمكن محاكمة من يستغل شعارات المتظاهرين الحقيقيين، وأن يطلب هؤلاء من مجموعات طفيلية من إعلاميين وإعلاميات وسياسيين وقف سرقة تظاهرتهم. ولوجب حماية طرابلس التي «اكتشف» بعض هؤلاء أزقّتها وشوارعها وحيويّتها وتاريخها، وبيروت والنبطية وكفررمان وصور وجبل لبنان ممن يريدون إفراغ الانتفاضة من مضمونها، فشملها التشويه الذي لحق بالبيئة وبالأرض والغابات والمحميات، وتحوّلت الى استعراض لعضلات منتفعين.
في اليوم العاشر، بدت التظاهرة الحقيقية بعيدة عن محاولات استثمارها. لكن تداعيات استمرارها تترك تأثيرات مباشرة على المشهد السياسي المنقسم بين ثلاث قوى رئيسية: حزب الله، التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. تراجع حضور الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط، فالأول حيّد نفسه عن المنازلة السياسية، بعدما طاولته سهام المتظاهرين، مدركاً أنه عاجلاً أو آجلاً ستكون له كلمة في ما حصل ويحصل حين يبدأ الجِدّ حكومياً ونيابياً. وحتى الآن، تمكّن من ضبط إيقاع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وحثّه على ضرورة التنسيق مع الحريري في كل ما يتعلق باستقالته من الحكومة. ولأن استقالته تُفقد الحكومة جزءاً من ميثاقيتها، يصبح خروجه منها متلازماً مع درس الخطوة التي تلي الاستقالة. وجنبلاط يعرف أنه بات أسير هذه الحكومة وأسير علاقته مع حزب الله، بعدما صعّد من حملته على العهد. فيما الحريري بات في قلب أزمة متشابكة، يرفض الاستقالة، لكنه يلوّح بها ويتراجع لاحقاً، وها هو الآن يعود الى النغمة ذاتها بطرحها مجدداً على الطاولة في حال بقاء كل المواقف على حالها. لا التيار يقبل بتنازلات ولا حزب الله، ولا الطرق فتحت في شكل كامل. والدوامة مستمرة، لأن الطرق المقفلة تعني مصارف وشركات مقفلة، وهذا يزيد من الضغط المالي والاقتصادي عليه، في وقت بات فيه واقعاً تحت ضغط المجتمع الدولي.
في المقابل، حدّد حزب الله موقعه بلغة تخطّت ما كان يتوقّعه البعض من «مواجهة المتظاهرين وإجبارهم على الخروج من الساحات»، فيما كانت الأجهزة الأمنية كافّة مستنفرة الى أعلى درجات الاستنفار خشية حصول أي تطورات دراماتيكية، ليتحوّل السؤال: لماذا لم يرفع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مستوى المواجهة الى السقف الأعلى، على غرار رغبات بعض حلفائه، في ظل الضغط الدولي للحفاظ على الاستقرار الداخلي، وضغط حليفه التيار الوطني لفتح الطرق بأيّ ثمن؟
لا شك أن التيار والقوات، كل من موقعه، يحاول الإفادة من التظاهرات لتسجيل مكسب سياسي. والأكيد أن القوات نجحت في استثمارها لأسباب سياسية بحتة، واستفادت منها لتحويل الضغط الشعبي الى أداة لتسجيل حضورها وتفوّقها على التيار في مناطق نفوذهما المشتركة، وتعطيل حركته. تنفي القوات أن تكون المسؤولة عن قطع الطرق، رغم أن حضورها بين المتظاهرين (عشرة إلى 15 في المئة فقط) حق واستكمال لموقفها المنسحب من الحكومة ولأنها جزء من حركة الاعتراض والمعركة القائمة. وهي مع فتح الطرق، لكن على القوى الأمنية إقناع الناس بذلك، وأن حصر التركيز على جل الديب والذوق يطرح أسئلة لأن لا أحد يتحدث مثلاً عن فتح الطرق في مناطق أخرى.
زاد اعتقاد خصوم القوات بأنها ستكون أول طرف سياسي يدفع الثمن لأن خطواتها تأتي دائماً في التوقيت الخاطئ


ورغم أنه لا يحقّ للقوات، التي أصبحت خارج أي حوار حول الحكومة وتعديلاتها، التظلّل بالتظاهرات، تحت أي شعار مطلبي أو اجتماعي، وخصوصاً أن مناصرين لها يرفعون شعارات سياسية بحت لا علاقة لها بالتظاهرات، فإن القوات مصرّة على أنها غير معنيّة إلا بكل ما يصدر رسمياً عنها، ونوابها بعيدون عن المشهد الإعلامي، وأنها لم تهاجم التيار، لكن هناك محاولة سياسية لاستهدافها لصرف النظر عن تلبية حاجات المتظاهرين. لكن الواضح أنه كلما ارتفعت حدة الهجومات على القوات، وزاد الضغط لفك الطرق في خمس نقاط أساسية استشعرت القوات نجاحاً ما، وزاد اعتقاد خصومها بأنها ستكون أول طرف سياسي يدفع الثمن لأن خطواتها تأتي دائماً في التوقيت الخاطئ.
من رابع المستحيلات التفكير بتعديل وزاري يشمل باسيل، أو تغيير حكومي من دونه، بغطاء كامل من حزب الله، لكن أداء التيار السياسي يظهر كأنه محاصَر، وأسهمت التجمّعات المحدودة وتقطيع الطرق في شلّ حركته. والردّ عبر حملات إعلامية وإلكترونية صبّ فقط لمصلحة التهجم على القوات، فيما استمر المتظاهرون على موقفهم من التيار ورئيسه، علماً بأن الشعارات المرفوعة لا تؤسس لمعركة سياسية ولا تُنجح عهداً كما ظهر حتى الآن، وحملة التيار المضادة المتعلقة بالسرية المصرفية ليست مقنعة ولا مجدية، كما حال الاعتصام في المجلس النيابي. لجوء التيار والعهد الى بعض الردود المفتعلة، كإدخال شقيقة الوزير جبران باسيل على خط الردود والدفاع عن شقيقها، وتدخّل ابنتَي الرئيس ميشال عون ميراي وكلودين على خط التغيير الحكومي، يصبّان في خانة ما يحمله المتظاهرون من اتهامات عن حكم العائلة. والأدوات التي كان يعوّل عليها التيار، كالجيش والأمن العام، ليست بين يديه، وتعويله على حزب الله فحسب سيف ذو حدين. وجرعة الدعم التي حصل عليها منه لم تبدّد المخاوف التي سيطرت في اليومين الأولين للتظاهرات. لأن ما كسر في هيبة التيار يحتاج إلى وقت لاسترجاعه. ولأن المعركة جديدة بظروفها وعناوينها، لا يمكن مواجهتها بعدّة تقليدية أثبتت عقمَها.