أن يبقى معتصمون في وسط بيروت، بعد الهجوم الذي تعرّضوا له، ثم يعودون في اليوم التالي، فهذه أيضاً رسالة على الرسالة: لن نخاف. هناك مَن خاف؟ طبعاً. تضاءل عدد المعتصمين، إنّما ليس كثيراً، إذ ظهرت وجوه جديدة فعدّلت الكفّة. مَن كان يُراقب المشهد اليومي هناك، على مدى الأيّام العشرة الماضية، يمكنه ملاحظة تلك الوجوه الوافدة. هؤلاء أتوا، قصداً، بعد الذي حصل. مجيئهم رسالة. هناك مَن كتب في رياض الصلح، منذ اليوم الأول لبداية التظاهرات، على أحد الجدران: «ينعن أبو الخوف». مكان العبارة بارز. يصعب على الزائر إلا أن يقرأه. إيفا كانت هناك أمس. جاءت مِن لندن، لديها إجازة لثلاثة أيّام فقط، ستشارك ثم تعود. شيء مِن نداء الوجدان. موظف حكومي، في أحد قصور العدل، كان هناك. أصرّ أن يأتي أمس، تحديداً، يُريد أن يكون حضوره رسالة. يتحدّث عن ألمه تجاه «الفرصة الأخيرة الضائعة». ينفعل أثناء حديثه عمّا جرى في اليوم السابق. يسخر مِن «الإخراج الرديء» أيضاً. الرجل مِن محبّي حزب الله، لكنّه يكاد لا يصدّق أن الحزب «قرّر بوعي أن يفعل ما فعل. كأننا عدنا إلى الوثنيات السياسيّة. لا أصدّق أنهم يضيّعون هذه الفرصة التاريخيّة».شيء لافت بدأ يزداد في وسط بيروت. المكان كلّه يكاد يُصبح «سوق أبو رخّوصة». باعة الكعك والهوت دوغ والعصائر غزوا المكان، إلى جانب باعة الأراكيل، وكلّهم آتون مِن خارج المكان، مِن أطراف المدينة وضواحيها، وهذه فرصتهم لـ«صنع» بعض المال. الأهازيج شغّالة. أصوات ما يُسمّى الأغاني الثورية تصدح، كذلك بعض الأغاني غير الثوريّة، وهتافات ومفرقعات و«بوالين». عروس وعريس وزفّة. عرض «كباش» في ساحة الشهداء. طبقة أعلى بدأت تظهر أكثر هناك. الذين يصطحبون كلابهم معهم كثروا. ملامح الطبقات الأدنى حاضرة أيضاً. المحال المحطّمة، الزجاج المتناثر أمامها، والأرض التي تحفظ آثار النار، الأرصفة المقبّعة... كلّها تشتاق إلى مَن فعل بها ذلك. غاب صانعو المعجزات، وقود الثورات، الذين ألهبوا المكان في بداية التظاهرات. ابن الغبيري، الذي كان أوّل مَن رمى المصرف، الذي بادر إلى تهشيم الواجهة، في الليلة الثانية من ليالي التظاهرات، لم يكن هناك أمس. مصاب بشيء مِن القرف. ذاك الشاب، بالمناسبة، ليس صاحب ميول حزبيّة، ولم يكن يُراهن على أحد أصلاً، هو يثق بنفسه وبمن مثله منذ زمن بعيد... لكن مع ذلك يشعر بالقرف مما جرى. يجزم أنّه عندما تتاح له الفرصة مجدداً، فإنّه سيكون على الموعد. شوهد ليل أمس، في وقت متأخر، حضور شخصيّات محسوبة على «تيار المستقبل». بعض النخب البيروتيّة توجّهت إلى هناك. جاؤوا كعائلات.
أوّل مَن هشّم واجهة المصرف في الليلة الثانية من ليالي التظاهرات، لم يكن هناك أمس


رغم كلّ الأغاني والأهازيج، أمس، كانت الكآبة مخيّمة على المشهد. شيء ما تغيّر عن الأيّام الماضية. حتّى ذاك الشاب الذي كان يؤسّس مجموعة لـ«تنظيف» التظاهرات، مِن كلّ
«الشوائب» وما يراه سخافات وسطحيات، كان محبطاً. لم تعد لديه خطّة. كان هناك أمس بجسده فقط. هو موجود ولكنّه كمن لم تعد لديه مطالب. ربّما لن يأتي غداً، وربّما يأتي، وربّما يتحوّل إلى شيء آخر تماماً، إلى «قنبلة» مِن نوع ما مثلاً. قاتل هذا التحوّل السريع، في ليلة واحدة، مِن فائق الأمل إلى فائق الإحباط. هذا يسهل ملاحظته في وجوه الكثيرين في الساحة. لعلّه يكون أكثر مِن ذلك في الوجوه التي غابت. سطحي مَن يعتقد أن الأمر انتهى هنا. الآن بدأ. شيء جديد الآن بدأ.