تبوّأ السيد حسن نصر الله، في خطابه الأخير حول الانتفاضة اللبنانية المندلعة منذ السابع عشر من تشرين، موقع الناطق الرسمي باسم النظام اللبناني، ودافع عن هذا النظام بجميع أطرافه بمن فيهم حلفاؤه وأعداؤه داخل النظام على حدٍّ سواء. وهو ما يدعو إلى الاستغراب لأن «حزب الله» لا يمثّل مكوّناً «أصلياً» من مكونات هذا النظام، بمعنى أن حزب الله لم يبنِ زعامةً طائفية «تقليدية» قائمة على نهب الدولة واقتسام مغانمها من أجل تمويل نفسها وتوزيع فتات هذه المغانم على رعاياها. فالحزب صاحب مشروع مختلف جذرياً عن باقي زعامات الطوائف المؤتلفة داخل النظام اللبناني.من هنا كان مشهد السيد نصر الله يدافع عن النظام اللبناني على مدى أكثر من ساعة في خطابه الأخير مشهداً غرائبياً يدعو للأسف الشديد. فهو استفاض دفاعاً عن النظام بجميع مكوناته بمن فيهم من سنّ سكاكينه يوم اندلعت حرب تموز وانتظر هزيمة المقاومة لسلخ جلدها والانتهاء منها إلى الأبد. والمشكلة أنه إذا اندلعت الحرب بين «حزب الله» وإسرائيل مرة أخرى اليوم، أو بعد سنة أو عشر سنوات، فإن هؤلاء سوف يعيدون انتظار هزيمة المقاومة مرة أخرى ويعيدون شحذ السكاكين من جديد.
ولسنا ندري كم من المرّات يتوجب على «حزب الله» أن يُلدغ من ذات الجحر كي يصل إلى قرار وجوب التعامل مع الشعب اللبناني كشعب مؤلف من مواطنين وليس من مجموعة طوائف يتم التعامل معها من خلال زعاماتها. والمؤسف أن الخطاب المذكور للسيد نصر الله أراح جميع الزعامات «الأصلية» من مكونات النظام من عناء الدفاع عنه. بل أراحهم إلى درجة جعلتهم يتبارون في ركوب موجة الانتفاضة الجارية، لا بل أراح شخصية مثل فؤاد السنيورة إلى درجة جعلته يستغل الفرصة «للتنقير» على السيد نصر الله و«لنصحه» بالانصياع لإرادة الناس. فالسنيورة وأمثاله اطمأنوا بأن السيد نصر الله انتدب نفسه للدفاع عن النظام، واستنتجوا بأنه لا داعي لبذل جهودهم هم للدفاع عن هذا النظام، وبالتالي لا بأس من تجيير هذه الجهود لإحراج السيد نصر الله أمام الرأي العام.
لا يعرف «حزب الله» التعامل مع المواطنين المتحررين من طوائفهم والممتلكين لقرارهم وغير الخاضعين لسيطرة أي جهة


المشكلة أن «حزب الله»، ومنذ أن انخرط في السياسة اللبنانية، قرر أن يفرز اللبنانيين إلى طوائف وأن يتعامل مع هذه الطوائف من خلال زعاماتها. وإذا كان للحزب من «غفّارةٍ» للإصرار على هذا الفرز عندما كانت هذه الزعامات قادرةً على الحفاظ على الاستقرار من خلال اقتسام الدولة وتوزيع فتات المغانم على رعاياها، فلم يبقَ له من «غفّارة» اليوم بعد أن ذهب الاستقرار مع انهيار معادلته، وبعد أن خلع اللبنانيون انتماءهم الطائفي للمرة الأولى في العصر الحديث ونزلوا إلى الشارع مطالبين بتغيير النظام.
والمشكلة الأعمق هي أن «حزب الله» على ما يبدو لا يثق إلا بمن هم تحت سيطرته المباشرة. فهو لا يعرف التعامل مع المواطنين المتحررين من طوائفهم والممتلكين لقرارهم وغير الخاضعين لسيطرة أي جهة. علماً أن هؤلاء الناس هم حلفاء الحزب الطبيعيون في معركته بوجه إسرائيل، لأن هؤلاء هم الذين ينظرون إلى إسرائيل كعدوّ وجودي منذ ما قبل ولادة «حزب الله». وإذا كانت حجة الحزب في عدم التعامل مع هؤلاء من قبل بأنهم عددياً كانوا على هامش المجتمع اللبناني، فمع هذه الانتفاضة أصبحوا في متن وقلب هذا المجتمع على امتداد المناطق والطوائف في طول البلد وعرضه.
ولذلك فإن «حزب الله» يرتكب جريمةً بحق نفسه وبحق الشعب اللبناني برمته بنفس الوقت باستمراره بعدم الاعتراف باللبنانيين كمواطنين لا كرعايا طوائف. فهو يقتل حلم هذا الشعب بالخلاص من النظام الطائفي المقيت في هذه اللحظة التاريخية، وهو لن يتمكّن من إدارة ظهره إلا لهؤلاء المواطنين الذين تحرروا من طوائفهم وامتلكوا حرية قرارهم في حال وقوع الحرب مع إسرائيل مرة أخرى. ذلك أن جميع أطراف النظام سيكونون مشغولين إما بشحذ سكاكينهم من جديد أو بفتح خطوط العودة عبر مبعوثيهم من الصف الثالث إلى الأميركيين. وكلنا نذكر محادثات ويكيليكس التي فضحت كلا النوعين من أباطرة الطوائف الذين يدافع عنهم وعن نظامهم السيد نصر الله مطمئناً إلى أنهم «تحت السيطرة».
يا سيد حسن، نحن نعتبر أننا من «المحبّين» الذين ذكرتهم في خطابك الأول عند اندلاع الانتفاضة الحالية، ونحن سنبقى مع المقاومة بوجه إسرائيل مهما حدث. ولكننا للأسف الشديد نجد حالنا كحال الشاعر الكبير محمود درويش حين صرخ صرخته الشهيرة بوجه اللبنانيين «اسمحوا لنا أن نحبّكم». فجماهير المقاومة بين اللبنانيين، بل من المحيط إلى الخليج، هي أوسع بما لا يقاس من «البيئة الحاضنة» الضيقة التي يمكن إبقاؤها تحت السيطرة.
* كاتب لبناني