تدخل البلاد اليوم مرحلة جديدة من المواجهة السياسية. الحراك الشعبي ليس متوقعاً له النهاية كما يفكر أركان السلطة، كما أن الحوار المفترض بين الجانبين ليس جاهزاً بعد، وحالة الحيرة القائمة عند الناس إزاء ما ستقوم به الحكومة، تقابلها حيرة أكبر عند أهل السلطة حول ما يمكن القيام به وإرضاء الناس. لكن جوهر الأزمة في عدم قدرة أي من الطرفين، أو أي وسيط على إدارة حوار ولو بالواسطة. ذلك أن السلطة تحب المكابرة حتى آخر نفس، أما الحراك، فهو أمام تحديات كبيرة، أهمها كيفية إنتاج إطار تنسيقي يصلح كمنبر يعكس المشترك الممكن بين مطالب المشاركين فيه، فيما تتعاظم مساعي جميع القوى السياسية لاستثمار غضب الناس في معارك أهل السلطة.وبينما أُخِذ على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أنه بالغ في توفير الحماية لأهل النظام، وأنه يرفع من سقف مخاوفه من مساع خارجية وداخلية لاستثمار الحراك ضده سياسياً، كان الطرف الآخر (الغرب والسعودية والإمارات والقوات اللبنانية وبقايا 14 آذار، وأنصار المعارضة السورية في لبنان) يسعى لتأكيد عدم وجود علاقة بينه وبين تحرك الناس. لكن ما الذي حصل، حتى اضطرت «القوات» الى إظهار وجودها بشكل قوي من خلال تدابير اتفق عليها في مكاتب «mtv» أول من أمس، ثم عمّمت لاحقاً على الآخرين، وتتعلق بكيفية مواجهة قرار فتح الطرقات. وما الذي اضطر هذا الفريق إلى استدراج الجامعتين اليسوعية والأميركية لتوفير غطاء «نوعي» للحراك. وما الذي جعل الإعلام العربي والغربي يزيد من مستوى اهتمامه على قاعدة اعتبار ما يجري «ثورة ضد حزب الله وضد الفاسدين».
كل ذلك، يدل على أن المواجهة بين القوى السياسية غير القائمة أساساً بالحراك، تحتدم بصورة كبيرة، بينما تحبط مساعي القوى الحقيقية للحراك، والتي تمثل غالبية لبنانية مقهورة، في إنتاج وضعية خارج الخلافات بين أركان السلطة الموجودين أو المستقيلين، وهو ما تمثل في استمرار عرقلة محاولة إنتاج إطار قيادي تنسيقي ينطق ولو باسم الغالبية. وبدا واضحاً لعدد غير قليل من الناشطين، أن هناك من يحول دون «اجتماعات عملية وجدية منتجة» تقود الى خلق الإطار التنسيقي، وأن الميل لا يزال أقوى باتجاه ترك الناس تعبّر عن هواجسها من خلال حلقات حوارية مفتوحة في أكثر من تجمع للمتظاهرين.
من هو صاحب المصلحة في عدم تشكيل إطار قيادي للحراك؟
بعض القوى الناشطة، يعتقد أن السلطة هي التي تريد قيام هذا الإطار حتى تعمل على استمالته أو استهدافه، بينما يرى ناشطون آخرون أن الفعاليات نفسها ليست في وضع يتيح لها التوافق على إطار تنسيقي من دون التفاهم على تسمية أشخاص، وأن الوضع الحالي سوف يفرض قيام إطار واسع وعريض لا يقدر على إنتاج ورقة عمل إلا بعد وقت طويل، فيما يقول طرف ثالث (وهو للأمانة ليس كبيراً داخل الحراك) إنه ربما «تكون هناك جهة خفية تمنع قيام هذا الإطار، حتى يظل بالإمكان التأثير عليه من خلال أفكار مفاجئة أو من خلال التعبئة الإعلامية».
وبمعزل عن هذا الرأي أو ذاك، فإن النتيجة هي دخول الجميع في مرحلة النقاش العقيم. يعني أن السلطة التي لا يبدو أنها مستعدة لتغيير جوهري، تريد أن تدخل مع الناس في حوار «الدجاجة والبيضة». وتراهن السلطة هنا على تعب الناس ومللهم، وعلى شكوى المواطنين من تعطل الحياة العامة والأشغال. ويكثر أهل السلطة من روايتهم المحبّبة، المتعلقة بالقواعد الطائفية والمذهبية والتحولات القائمة فيها، بينما تسعى أدوات السلطة الأمنية الى محاولة اختراق صفوف الناشطين من خلال عمليات ترهيب وترغيب، علماً بأن القوى الأمنية ليست كلها عاملة الآن عند الدولة، بل فيها أيضاً اختراقات خارجية وفيها ما يحاكي حسابات البعض وطموحاته، من أركان هذه المؤسسات.
ما الذي اضطر «القوات اللبنانية» إلى الظهور أكثر؟ ومن أفتى بتدخّل الجامعتين الاميركية واليسوعية؟ ومن يمنع تشكيل إطار قيادي للتنسيق؟


في المقابل، فإن القوى السياسية المعارضة للسلطة، والتي تمثل القوات اللبنانية رأس الحربة فيها، تعتبر أن المواجهة القائمة ستتيح لها توسيع دائرة نفوذها في الشارع عموماً، ولدى المسيحيين على وجه الخصوص، علماً بأن كثيرين من المشاركين في التظاهرات ينفون قدرة «القوات» على التأثير المباشر على الناس، وأن هذا الفريق يتحاشى الظهور علانية، ليس لعدم اتهامه بالتدخل، بل لأن كثيرين من الناس لا يرونه خارج فريق السلطة أساساً.
عملياً، الاستعراض للأحداث لا يكفي لفهم ما يجري. لكن الأساس هو تحديد مصلحة الحراك، وتحديد آلية حمايته من السلطة ومن لصوص السياسيين والسفارات والخارج والفاسدين أنفسهم. وهذا يعني ضرورة العودة به الى المربع الاول، حيث مركز الاحتجاج على سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية. وهو الأمر الذي يحتاج الى تغيير جوهري في السلطة، لكن ليس على طريقة التكنوقراطيين أو الخبراء الذي يظهرون فجأة ليتم تصويرهم لنا كمنقذين، مثل غسان حاصباني (ملك الخصخصة) أو عادل أفيوني (المتهم باختلاسات مالية في مصارف أوروبا) أو فادي جريصاتي (غير العارف بآلية عمل الدولة وطريقة مخاطبة الناس) أو محمد شقير (الذي يجري تصويره على أنه ملك التجارب التجارية الناجحة، وهو الممنوع من التدخل في عمل عائلته خوفاً على العمل نفسه).
إن شعار إسقاط الحكومة هو حتماً جزء طبيعي من أي حراك شعبي، وهو أمر لا بد منه في كل الأحوال، لكن أن يحصل التغيير وفق وصفة فضلو خوري (الذي تنهار صحتنا وسمعتنا بـ«فضلو») أو أن يجري وفق محادثات جانبية تجريها القوات اللبنانية أو وليد جنبلاط مع شركائهما في السلطة، فهذا ما لا يتطابق والأهداف الفعلية للحراك الحقيقي، القائم على فكرة نسف طبقة منتشرة على مقاعد الحكومة والمجلس النيابي والإدارة العامة والقضاء والمؤسسات الأمنية والعسكرية وحشد المجالس والمؤسسات العامة. وإذا لم يسارع أهل الحراك إلى إعادة تصويب البوصلة، فإننا نسير نحو مأزق قد يقودنا الى خسارة كبيرة، والى إحباط جديد..
لننتظر اليوم كيف سيجري التحرك أمام مصرف لبنان، ومن سيهتم به مشاركة أو تغطية أو متابعة... وبعدها لكل حادث حديث!