رغم إجماع الشارع اللبناني على المطالب المعيشيّة التي انطلق منها الحراك اللبناني الشعبي ابتداءً من تاريخ 17تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلا أن المشهد السياسي العام اليوم منقسم ما بين خطابين: خطاب توجّس السيد حسن نصرالله من الحراك الشعبي اللبناني، في مقابل خطاب اندفاع الكثير من المواطنين نحوه باعتباره انتفاضة لبنانية. انطلاقاً من هذا الاختلاف، تتناول السطور التالية بعض النقاط النقديّة حول خطاب الحراك الشعبي بالمقارنة مع خطاب المقاومة.فيما يتعلق بخطاب الحراك الشعبي اللبناني:
• إن كان هناك من وصفة سريّة قادرة على إجهاض الحراك الشعبي المطلبي اللبناني واغتياله في عزّه، وخلق شرخ وانقسام حاد في البلد، فقد طالعتني في بعض نماذج - وأشدد هنا على بعض – الهتافات «الثوريّة» التي تتعمّد المسّ باستراتيجية لبنان الدفاعية ضد العدو الإسرائيلي، وأعني بذلك سلاح المقاومة. كل دعوة في الشارع أو في استديوهات التحليل السياسية إلى نزع سلاح المقاومة اللبنانية هي أشبه بدقّ مسمار جديد في نعش حراك مطلبيّ لا يزال اليوم في أوج حياته. كل ثورة هي في صلبها معركة تحرير. وفي السياق اللبناني، أي ثورة حقيقيّة ستتبنّى معركة تحرير متكاملة الجبهات: تحرير الاقتصاد من الفساد، تحرير الفكر من الطائفيّة وتحرير الأرض من الاحتلال. كيف إذاً لثورة أو حتى انتفاضة تدّعي تحرير الناس أن تصوّب على طرف التحرير الأقوى في لبنان في ما يتعلق باستراتيجيته الدفاعيّة ضد الاحتلال الإسرائيلي؟ ألا يعني ذلك تشريع الأبواب أمام الانتهازيين من الداخل والخارج وأصحاب الأجندات المشبوهة ليصطادوا في «الماء العكر» ويصفّوا حساباتهم السياسية – مستعينين بالإعلام بشكل كبير - مع المقاومة مستترين بمطالب الناس المحقّة؟ وللمقاومة الحق في التوجّس من هكذا احتمالات، فبعض الأطراف التي تؤيد الحراك اليوم قد سبق لها وأن صادرت سلاح المقاومة في أوج الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي عام 2006، ثم حاولت مصادرة ونزع شبكة اتصالات حزب الله في عام 2008. لذا، وحرصاً على الحراك وأحقية مطالبه وقدرته على الاستمرار والحشد واستقطاب الجموع لا تنفيرها - والإجماع العددي أساس لنجاح أي حراك شعبي - ينبغي للمعتصمين وبوضوح رفض أي مسعى لجعل مطلب «نزع سلاح المقاومة» مطلباً يوصَم به الحراك. مطالبة حزب الله بمحاربة الفساد في الداخل اللبناني وكشف الفساد ومحاسبته، ابتداءً من بيئته وحلفائه الأقرب هو مطلب مُحق وضروري، لكن استغلال ذلك لإثارة الفتن والدفع نحو تعرية المقاومة من سلاحها سيعرّي البلد أكثر فأكثر ويُجهِض الحراك تماماً ويزيد من حدّة الانقسام الشعبي وربما يدفع بالبلد دفعاً نحو حرب أهليّة.
• من الإشكاليات المنطقيّة التي وقع فيها خطاب الحراك الحالي هي عدم الإفادة والتعلّم من تجربة فشل أو نجاح شعارات سبق أن استُخدمت في الحراك اللبناني الشعبي في عام 2015. حينها، طالعنا شعار "كلن يعني كلن" بعد تفاقم أزمة النفايات ونزول الناس إلى الشارع للمطالبة بحل فوري. هَدَفَ الشعار إلى تحميل كل أفراد طاقم الحكم مسؤولية الأزمة البيئيّة، لكنه شكّل استفزازاً بارزاً حينها لفئة من اللبنانيين رفضت زجّ اسم السيد حسن نصرالله وصورته مع غيره من السياسيين، فليس من المنصف مثلاً وضع صورة السيد حسن وسمير جعجع معاً ومساواتهما ببعض! خلقت المقاربة شرخاً بارزاً بين المتظاهرين، وكون الثورة سيرورة نتعلم من مختلف محطاتها المتتالية، كان الأجدى بالحراك الابتعاد عن شعار سبق وأن اختبرنا قدرته على تقسيم المتظاهرين، رغم أنه محق في المنحى الاقتصادي من حيث تحميل جميع الحكّام مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع المعيشيّة، وإن كانت تقع هذه المسؤولية عليهم بنسب متفاوتة.
غياب القيادة مؤشر ضعف ينمّ عن غياب الرؤية السياسية والقيادية


• من الأزمات التي تطالع الحراك حالياً هي عدم تسميته لمجلس تمثيلي يكون أشبه بائتلاف للثورة. عندما يتوجه السؤال التالي إلى ناشطين في الحراك أو إلى متظاهرين: من يقود هذا الحراك؟ يأتي غالباً هذا الجواب: لا قيادة لهذا الحراك، الشعب وحده هو القائد... جميلة هذه الحالة في الأيام الأولى للحراك، لكن في المرحلة الثانية، حيث يخفّ زخم العاطفة المرافقة للانتفاضات الشعبية وتزيد ضرورة العمل والتنظيم، يصبح غياب القيادة مؤشر ضعف ينمّ عن غياب الرؤية السياسية والقيادية التي تتعدّى الإطاحة بالحكومة أو بحاكم ما هنا أو هناك. ماذا بعد هذه المرحلة؟ من سيتولى زمام الأمور بتمثيله/ها الشارع المطلبي والحرص على تحقيق مطالب الناس؟ اختيارهم سيُبعد حتماً شبح الفراغ، والأهم، الإسراع في عملية فرز الشارع لمجلسه التمثيلي الذي يستطيع أن يُريح جميع المتوجّسين من الحراك وأن يُبعد أي شبهات تثار حوله. عندها، لن يكون هناك من داعٍ للخوف من وجوه وبرامج واضحة المعالم، فهذا يختلف تماماً عن هاجس مواجهة قادة أشباح يتلطّون بجموع الناس.
في ما يتعلق بخطاب السيد حسن نصرالله:
• رغم تأكيد السيد على نوايا العديد من المتظاهرين الوطنية الحميدة وصدقهم في الانتفاضة لمطالب محقة، إلا أن لغته الطاغية حول الحراك اليوم أتت "مؤامراتيّة"، فصورت الحراك مرتهناً لتمويل سفارات خارجية وأجندات مشبوهة تستهدف المقاومة. بدا في ذلك أولاً استضعافاً لقدرة الناس على تمييز واستبعاد الجماعات الانتهازية من تمثيل الحراك، في الوقت الذي علّى من شأن ذكاء هؤلاء الجماعات وقدرتهم على اختراق الحراك وحرف مساره تجاه مصالحهم. كما وبدا ذلك التوجه اختزالياً بحق جماعات وأفراد وطنيين وشرفاء كثر شاركوا في ما اعتبره الخطاب حراكاً مريباً. حتى إنّ العديد من المتظاهرين المشاركين كانوا أنفسهم معتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي (كالأسيرين المحررين أنور ياسين ورباح شحرور وغيرهما). فما ذنب الأغلبية الشريفة إن حاول البعض تسلّق الحراك على أوجاعها والعمل على تحوير المسار؟ وكون حزب الله يمتلك معطيات حول هؤلاء، أليس من حق المواطنين المشاركين في الحراك معرفة هوية تلك الأطراف لمساعدتهم على نبذها واستبعادها حرصاً على حراكهم ومطالبهم المحقّة؟ أليس هذا أجدى من الشيطنة العامة للحراك؟ وقد كان لحرق العلم الإسرائيلي في عدد من مناطق الاعتصام اللبنانيّة دلالات جوهريّة، أبرزها التصدي لكل محاولات تخوين الحراك، كما والتأكيد قيميّاً أن لا مساومة في أنّ الاحتلال الإسرائيلي عدو مطلق للبنان، ولا أفق لحركة تغييريّة لا تتمسّك بهذا الموقف.
• عبارة «لا يمكنكم أن تُسقطوا العهد» بدت في خطاب السيد تحدياً سلطوياً مواجِهاً لنبض الشارع وإرادة الناس، في الوقت الذي كان فيه الناس يثورون لحقوقهم الأساسية في الشارع صارخين «ما عاد فينا نتحمّل أكتر!» من المفهوم والمتوقع طبعاً عدم تأييد حزب الله لسقوط العهد، لكن لِمَ التعنّت والتمسك بشخصيات نبذها الشارع العام بوضوح مثل جبران باسيل، رغماً عن إرادة الناس؟ لماذا الحرص على عدم دعم أي خطوة تغيير على مستوى السلطة تُشفي غليل الناس كاستقالة الحكومة؟ ولم لا ينفتح الحزب على التحالف مع قوى جديدة أكثر تمثيلاً وقرباً من الناس؟ المقاومة والشارع المطلبي مشروعان متكاملان لا متضادّان، وتصويرهما كأضداد سيؤذي الاثنين معاً.
• كان من المؤلم عدم إدانة السيد نصرالله لتعرّض بعض مناصري حزب الله لمتظاهرين سلميين في ساحة رياض الصلح أو في النبطية، بل فقط الاكتفاء بدعوة الشباب للخروج من ساحة وسط البلد من دون الإدانة لأي عنف مورس في حق المتظاهرين السلميين.
لا يخفى على أحد أن البلد اليوم يمر في وضع دقيق. ولعل أبرز المقترحات لتخفيف حدة خطورة هذه المرحلة وتبني حلول ترضي الشارع المطلبي وفي الوقت ذاته تطمئن المقاومة: استقالة الحكومة الحالية - الإبقاء على صيغة الاستراتيجية الدفاعية الحالية ضد الاحتلال الإسرائيلي، أي المقاومة اللبنانية، وعدم المسّ بسلاحها - تشكيل حكومة انتقالية مستقلّة تحظى بقبول الناس وثقتهم، حيث تعمل على إعداد قانون انتخابي عادل خارج القيد الطائفي وعلى استرجاع الأموال المنهوبة – إجراء انتخابات نيابية مبكرة بقانون (الهدف لبنان دائرة واحدة). هكذا إجراءات قادرة على أخذنا تدريجيّاً في اتجاه عقد اجتماعي جديد ينتشلنا من دوّامة النظام الطائفي، لا سيما بعد أن زاد الوعي الشعبي لدى اللبنانيين – كما أبرز الحراك – حول مسؤولية النظام الطائفي الطبقي المباشرة في إفقارهم.
ختاماً، يجب الإشارة إلى أن أي محاولة تجاهل أو احتواء مؤقت لهذه التحركات عوضاً عن احتضانها وتقديم معالجة فعليّة ترضي مطالب الناس ستعني حتماً عودتها في المستقبل القريب، لكن بحجم ووزن أكبر...
* إعلامية ومؤسسة "التجمع المناهض للفصل العنصري"