مرة جديدة، ليس بين الناس المتألمين من يملك خارطة طريق للأيام المقبلة. المجموعات الناشطة في الساحات تتصرف كأنها تمسك بالحراك بدقة متناهية، فيما تمارس القوى السياسية الساعية الى تحقيق مكاسب مباشرة لعبتها الخبيثة في التدخل، تصعيداً أو تهدئةً، بحسب بورصة الاتصالات السياسية بينها وبين أركان السلطة حول طريقة تشكيل الحكومة. وبعدها يأتي الاهتمام بالخطوات الواجب اتخاذها. لكن الأكثر خطورة هو إصرار قوى السلطة على التصرف على أن ما يجري في الشارع لم يعد قابلاً للصرف في لعبة التجاذب السياسي، لأن لعبة الشوارع المتضاربة دخلت حيّز التنفيذ. أما الخارج - الذي ينفي البعض علاقته بكل ما يجري أو يعتقد آخرون أنه مجرد مراقب - فيواصل عمليات الضغط على المتصارعين من أهل السلطة، وعلى مجموعات وجمعيات يعتقد أن لها تأثيرها في الشارع.هذه هي الصورة الفعلية لما يجري اليوم. العونيون الذين استجمعوا قواهم ونزلوا الى الشارع دعماً للرئيس ميشال عون، قرروا الانتقال الى خطوات عملانية في مواجهة الدور الذي تقوم به «القوات اللبنانية» في ملف قطع الطرقات. ويضطر العونيون الى رفع مستوى تدخلهم، بعدما لمسوا أن الجيش اللبناني، كما قوى الأمن الداخلي، يلتزم قراراً «غير معروف المصدر» بالحياد التام، علماً بأن العونيين ـــ ومعهم قوى أخرى من بينها الرئيس نبيه بري وحزب الله ـــ يجزمون بأن القوى العسكرية والأمنية «متورطة» في أعمال قطع الطرقات.
عملياً، يبدو الحريري الأكثر ارتباكاً. يعرف أنه المرشح شبه الوحيد لشركائه من أهل الحكم لتأليف الحكومة الجديدة، لكنه يعرف، أيضاً، أنه ضحية ضغوط خارجية تمنعه من القبول بأي حكومة، وسط إصرار أميركي ـــ سعودي ـــ إماراتي على حكومة لا تضمّ سياسيين. والهدف منها صار واضحاً في المداولات الجارية مع رئيس الحكومة، وهو ليس الاكتفاء بمنع التمثيل السياسي لحزب الله أو للتيار الوطني الحر مباشرة في الحكومة، بل الذهاب نحو «مزحة» إضافية تتعلق ببرنامج عمل الحكومة، واعتباره برنامجاً تقنياً خالياً من أي عنوان سياسي. وفي التدقيق، يبدو أن الحريري يقول ما يردّده الطرف الخارجي بأن البيان الوزاري للحكومة «غير السياسية» يجب أن لا يتطلب أي موقف من مسألة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو ملف النازحين السوريين. وهذا سبب كاف لعدم تشكّل حكومة جديدة في لبنان.
أما في ما يتعلق بفريقي المعارضة من داخل السلطة، أي وليد جنبلاط وسمير جعجع، فإن الصورة لا تبدو متطابقة تماماً لديهما. صحيح أنهما الأكثر تأثراً بالأجندة الخارجية، لكنّ لدى جنبلاط ارتياباً وخشية من التفرّد به. وهو، لذلك، يسعى الى خطوات عملانية تجنّبه الصدام مع أحد. فقرّر، مثلاً، أن لا يكون هناك أيّ تحرك شعبي داخل المناطق التي يملك فيها نفوذاً كبيراً، كالشوف وعالية وحاصبيا، وأن يقتصر العمل الشعبيّ على مشاركة في قطع طريقي الساحل والبقاع، مع إرسال مندوبين عنه الى الساحات العامة، والسؤال عن المساعدة التي يمكن أن يقدمها إلى المتظاهرين، علماً بأنه قرّر إخراج أحد أرانبه، عند طلبه الى مجموعات يسارية تدور في فلكه السياسي العمل على تنشيط نفسها والقيام بحراك في الساحات العامة، مع تعهّد من قبله بتوفير حاجاتها اللوجستية.
في المقابل، تجد «القوات» أن المرحلة الاولى من مشاركتها لم تعد كافية، لناحية تطويع شبان يتولّون قطع الطرقات صباحاً ثم تكليف الصبايا بالانضمام الى التجمعات نهاراً وليلاً، فعمدت الى تعزيز المشاركة المباشرة في أكثر من مكان. لكنّ الحرص على عدم الظهور مباشرة أمام الإعلام، لا يمكن أن يخفي هوية أنصارها المعروفين لدى المجموعات الناشطة في الساحات. و«القوات» التي تحرص على «التزام خطة منع عودة الحياة الطبيعية الى البلاد ولو خلال ساعات النهار»، بدأت تصطدم بخطر المواجهة الأهلية في عدة مناطق، لا سيما تلك التي توجد فيها مع العونيين، علماً بأن «القوات طابقت برنامج جنبلاط، لجهة منع أي نشاط شعبي في مناطق نفوذها الأوسع، كقضاء بشري وبعض مناطق الشمال.
أما تيار «المستقبل»، فقد جاءته مهمة الانضمام الى الحراك في أصعب لحظاته التنظيمية والسياسية. ذلك أنه يعرف أن الناس في الشوارع لن تقبل به شريكاً واضحاً في حراك يستهدف السلطة، وفي مقدّمها حكومة سعد الحريري. لكنه يتصرف بسذاجة غير مسبوقة، عندما يفترض أن استقالة الحريري يمكن استثمارها كبطاقة دخول الى ساحات المعترضين. وإن لم يكن إرث هذا التيار الهرم بعمر مبكر، لا يسعفه في إنتاج وسائل وشعارات تجعله أكثر حنكة. لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، بل تصل الى ما هو أبعد، حيث يبدو التيار اليوم مجموعة من الجمعيات المناطقية التي لا تخضع لإدارة مركزية، وتنقصها الإمكانات الكفيلة بجعل تحركاتها مفيدة بشكل كبير، ما فتح الباب أمام صراعات على من يقود مجموعات «المستقبل»، وهذا ما يقلق الحريري نفسه الذي يعرف أنه غير قادر اليوم على ادّعاء الإمساك بكامل مفاصل حركة «التيار الأزرق».
العونيون ومعهم الرئيس بري وحزب الله يجزمون بأن القوى العسكرية والأمنية «متورطة» في أعمال قطع الطرقات


وفي جهة حزب الله، لا يزال نشاطه يتركز على تجميع المعطيات حول تفاصيل كثيرة تتعلق بقوى الحراك ونوعية المشاركين فيه، وطبيعة المتدخلين محلياً أو إقليمياً أو دولياً. والحزب يرفع يوماً بعد يوم من سقوف قلقه من سعي الخارج والداخل (المعادين له) الى القيام بكل ما يؤذيه. لكن السؤال الأساسيّ عند الحزب هو: هل هناك قرار أميركي وغربي وسعودي بجعل الانهيار الاقتصادي كاملاً، وتالياً دفع البلاد نحو الفوضى الشاملة ومحاولة رمي المسؤولية عليه؟
ورغم أن الحزب يتصرف على أنه المسؤول الأكثر فعالية في ملف تأليف الحكومة، إلا أن النقاش داخله حول طريقة التعامل مع غضب الناس لا يزال قائماً وبقوة، وسط مناخ ضاغط باتجاه عدة أمور أبرزها:
أولاً: ضرورة أن يكون الحزب موجوداً في الحكومة وبشكل واضح، وأن يكون هناك بيان وزاري فيه كلام سياسي يؤكد حق المقاومة في التصدي للعدو.
ثانياً: أن يكون هناك برنامج عملي مع مهل زمنية تلزم الحكومة بتنفيذ الخطوات المتفق عليها. وأن يلتزم الحزب أمام جمهوره وأمام اللبنانيين بالعمل بطريقة مختلفة لضمان تنفيذ هذا البرنامج أو الذهاب نحو مواجهة مختلفة.
لكن الأهم بالنسبة الى كثيرين من الناس، وحتى من قبل قواعد الحزب، هو البرنامج الفعلي الذي يلزم الحزب بالتعامل بطريقة مختلفة من حيث المقاربة والخطوات، مع معركة إعادة تصحيح الخلل في الدولة وسلوك مؤسساتها على اختلافها. صحيح أن المرحلة لا تزال شديدة الحساسية، والمواجهة في الإقليم محتدمة، لكن القدرة على إبعاد الملف الداخلي، السياسي أو الاقتصادي، وجعله بنداً ثانياً أو ثالثاً، لن تبقى على ما هي عليه. وكما في كل مرة، يمنح جمهور المقاومة المباشر، أو جزء من الجمهور العام، ثقته، إلا أن أي محاولة من قبل الحزب للتصرف بطريقة تراعي حالة الإنكار الموجودة لدى السلطة أو بعض حلفائه، ستوسّع من هامش الانفكاك عنه، بما يهدّد قضية المقاومة نفسها..
ذات مرة قال سعد الله ونوس لحافظ الأسد: مستلزمات الصراع مع العدو لا تفرض أن تكون وزارة الصحة متعثرة!