الذين قاموا بالحراك، وأشعلوا ناره هم غير القائمين عليه اليوم. وهذا ما تفضحه الكاميرات المنصوبة والممارسات المدروسة. فالقوى التي سمحت لها جملة من التعقيدات الداخلية والإقليمية بالتسلل إلى الحراك ومن ثم الإمساك ببعض مفاصله المؤثرة تملك أجندتها الخاصة ذات المضمون المشبوه. المضمون البعيد عن مصلحة الناس الذين انتفضوا وهبّوا أو أولئك الذين كانوا بصدد اللحاق بهم. وهي الأجندة التي فرضت وتفرض عليهم خطوات مغايرة (إن لم تكن مضادة، وهي فعلاً كذلك) تستبعد العمل على التجذير الذي كان يتطلّب، من جملة وأول ما يتطلّب، إعلان الهوية والبرمجة والتأطير ورسم السقوف واستهداف «القصور»، كل القصور، المسؤولة عن النهب. وبدلاً من هذه المَهمات البديهية التي يفرضها وعي اللحظة وطبيعة الحراك وهويته، تعمد تلك القوى إلى إلهاء الناس بالاستعراض الذي يساهم في تشتيت الجهود وبعثرتها وربما أفضى في وقت غير بعيد إلى تحقيق الغاية المرجوّة منه وهو الحفاظ على مجمل الترسيمات المعاكسة لمصالح الناس وتثبيتها. فأوضاع المنظومة المهتزة، وبرغم ما لحقها من رضوض ما زال على تماسكه السابق على الانفجار. بل إن ثمة من شرع بين تلك القوى، كتيّار «المستقبل» في عمليات الترميم. والأرجح، وهو ما لا يجب أن يفوتنا، أن خطّة المنظومة في معركة الحفاظ على نفسها تلحظ احتمال أن تسوء الأمور وتتعطل الخطط على ما يوحي به إرباك رياض سلامة وضياعه. وفي هذه الحالة ستلجأ إلى ممارسة ما تجيده من ألاعيب وربما عمدت إلى تقديم بعض التنازلات الشكلية ولكن بما لا يخدش، وهنا الشرط الأساس، المصالح الراسخة للقابضين على السلطة (ورقة الحريري «الإصلاحية» مثالاً). إن القوى التي تسنّى لها خطف الحراك والعبث بروحه وإغراقه بالمبالغات حيناً وبالشعارات الخاطئة حيناً آخر، أظهرت، لمن جرّب أن يرى، حجم ونوعية الحرص على إغراقه بالطابع الكرنفالي، ومستوى الجهد المبذول في سبيل ألا يعكّر صفو هذا الكرنفال البائس هدف واضح أو عنوان صحيح. خصوصاً ما اتصل منها باستهداف الفاعلين المسؤولين عن انتشار الفقر والعوز أو حتى تسميتهم. لكن الخبر الجيّد، حتى الآن، أن محاولة الاستيلاء المرعيّة إعلامياً وسياسياً و«سفاراتياً» تواجه صعوبات غير قليلة لا أدلّ عليها من سلسلة الفعّاليات الأخيرة المتفرقة والتي تميّزت بحسن التصويب ودقّته، وشملت إلى «مصرف لبنان» بعض المصالح والعناوين ذات الصلة، وفي مقدمها عملية اقتحام «جمعية المصارف». فالردّ العنيف الذي أظهرته السلطة في مواجهة الشبّان كشف عن أهمية هذه العملية وخطورتها على البنيان اللصوصي القائم. كما كشفت عن جرأة المنفذين ووعيهم الذي يُبنى عليه.
يبقى على أصحاب الحق أن يكونوا متيقظين من ألاعيب السلطة التي لم تتوقف يوماً
إن الحرص على الحراك وما يوفّره من فرص جدّية في إحداث الكسر اللازم يستوجب تكرار لفت النظر إلى وجوب المباشرة في عملية التجذير وتالياً إحداث الفرز اللازم لضمان الاستمرارية وصولاً إلى تحقيق الأهداف. والدعوة المكرّرة هذه تنطلق من إدراك أهميّة ومفصلية اللحظة المتاحة. بل إن أهمية التجذير لا تقتصر على مكسب تحصين الحراك الذي يصعب تحقيقه إن لم يقترن مع مَهمة الدفع في اتجاه الوضوح الذي تزداد الحاجة إليه أكثر فأكثر. فوضوح الأهداف والفاعلين الأساسيين عنصر من العناصر القادرة على إعادة التزخيم، والسبيل الأساس في مَهمة تنقية الجسم الحراكي من مندسّي السلطة ومرتزقتها وغيرهم من قنّاصي الفرص وتجارها. أما استمرار التعتيم والضبابية والإصرار عليهما بحجج بائسة لا يمكن أن ينطليا على عاقل فيمكن أن يتسببا في تآكل ما تم إنجازه حتى الآن، والإطاحة برأسمال المصداقية المهتز، واستعداء من لا يزال يراهن على إمكانية استنقاذه من براثن تجّار القضايا وحملتها المزيفين.
يبقى على أصحاب الحق أن يكونوا متيقظين من ألاعيب السلطة التي لم تتوقف يوماً. وخصوصاً لجهة ما يتسرب عن نيّة القائمين عليها قرارهم بمنح الحراك تمثيلاً في الحكومة المنوي تشكيلها. إننا على موعد مع البازار. الأرجح أننا سنكون شهوداً على سيل لُعاب الكثيرين من مناضلي اللحظة الأخيرة ومناضلاتها.