لا مثيل لعجز السلطة. من تغنّى طويلاً بأن «البلد ماشي» صار لزاماً عليه أن يوضّح لماذا البلد «واقف» اليوم، والأهم لماذا لا يبالي بأن «البلد واقف». يتحسّس رئيس الحكومة المستقيل عندما يُذكّر بأن مأساة اليوم صنعها والده بالأمس، وغذّاها هو طوال السنوات السابقة. يرى أن الحديث عن تراكم 30 عاماً من السياسات الفاشلة هو افتراء على «الحريرية». ثم يعتبر أن تحميله مسؤولية ما وصلت إليه الأمور هو ظلم لا يقبله. كل ذلك لا يهمّ. في لحظات، نزع عنه ثوب الحكم ولبس لبوس «الثوار»، متوهماً أنه فعلاً يمثّل الشارع المنتفض، في الأساس، نتيجة السياسات الاقتصادية التي ورثها ثم تبنّاها، فشاركها مع من دخلوا معه في تسويات، وصولاً إلى لحظة الانهيار.يتابع سعد الحريري ما يجري في البلد، لكنه لا يبالي. يعتقد بأنه يملك ترف المراوغة و«التكتكة» السياسية، ولا يرى أن الناس تُذلّ يومياً في المصارف لتحصل على أموالها، فيما هو لا يتردّد عن تسديد فوائد الدائنين، حرصاً على «سمعة لبنان». فوائد الدين مقدّسة، أما أموال الناس فمباح السطو عليها، حتى لو برعاية القوى الأمنية. دفع مصرف لبنان سندات دين وفوائدها بقيمة 1580 مليار ليرة للدائنين الخارجيين والداخليين ومنهم مصارف، فيما تلك المصارف، بالرغم من حصولها على 380 مليون دولار من مصرف لبنان، لا تسمح للمودعين وأغلبهم من محدودي الدخل بالحصول على أكثر من 300 دولار أسبوعياً من مدخراتهم. الحريري يحترم كلمته وقد قال في مؤتمر سيدر إن التزامات لبنان لا تُمسّ. ولذلك، عندما تحدث وزير المال علي حسن خليل عن إعادة هيكلة الدين، جنّ جنون حماة الهيكل، وألزموه بالتبرؤ من لسانه. النتيجة اليوم أن الدين مقدّس، أما أموال الناس وحقوقها فتلك ليست سوى وقود «النموذج».
الأسعار تتضخم بشكل جنوني والمواد الغذائية بدأت تُفقد من السوق، وكذلك بعض أصناف الأدوية. محطات البنزين في إضراب، والشركات بين إغلاق أبوابها وتخفيض رواتب موظفيها. سعر صرف الدولار وصل إلى 2400 ليرة، قبل أن يدخل أمس في نفق المضاربين، الذين خفضوا السعر إلى نحو 1800 ليرة، في محاولة للمّ الدولارات من السوق قبل بيعها مجدداً بالأسعار العالية، من دون أن يحرك مصرف لبنان ساكناً. أما نقيب الصرافين فبررّ هذا الانخفاض بزيادة عرض الأسر للدولارات لتسديد الاستحقاقات المالية في نهاية الشهر وسعياً لتحصيل أسعار مرتفعة قبل إضراب الصرّافين اليوم!
كل ذلك، لم يجعل رئيس الحكومة يكفّ عن الدلع السياسي. يظن أنه بتعنّته يمكنه أن يفرض شروطه على شركائه في الحكم، فيما هم، في المقابل، مصرّون على تسهيل مهمته إلى أقصى الحدود. لذلك، يتعامل الحريري مع نفسه من موقع قوة يسمح له بأن يتدلل، و«إذا ما عجبكم شكلوا حكومة بدوني». مطالبه «محدودة». يريد أن يشكّل حكومة يختار هو وجوهها. ثم يريد أن تُعطى الحكومة صلاحيات تشريعية استثنائية، وأن يقر قانون انتخاب جديداً يدعو على أساسه إلى انتخابات جديدة خلال ستة أشهر. هو باختصار يريد أن يتسلم البلد، وينقلب على مجلس النواب، ثم يريد من الجميع أن يثق به، هو الذي كان يوماً رأس حربة في مواجهة المقاومة، وهو الذي يتحالف مع من يريد رأس المقاومة اليوم قبل الغد.
الأغرب أنه عندما يدعو الرئيس نبيه بري إلى تفعيل عمل الحكومة، لا يتردد الحريري بالرد، عبر مصادره المقربة، بأن «حكومة تصريف الأعمال تقوم بواجباتها بمتابعة الملفات الاقتصادية والأمنية». الانفصام مستمر. عن أي واجبات يتحدث الحريري؟ منذ ما قبل الاستقالة، وتحديداً منذ مهلة الـ 72 ساعة وهو مستقيل من أداء مهماته، ومن بينها تصريف الأعمال. وتصريف الأعمال في هذه المرحلة الاستثنائية ليس توقيع معاملات. المطلوب جهد استثنائي يعطي انطباعاً للناس بأنهم ليسوا متروكين لمصيرهم، وأن في السلطة من يتحمّل المسؤولية ويسعى إلى إنقاذ الوضع أو محاولة إنقاذه. كل ذلك لا يحصل. الحريري زعلان. وزعله يمنعه من القيام بواجباته، فلا يداوم في السرايا، أو حتى يزور مقر الرئاسة الثالثة، كما لن يشارك اليوم في الاجتماع المالي الذي دعا إليه رئيس الجمهورية في قصر بعبدا. وفي هذه الظروف الاستثنائية، يكتفي بإرسال مستشاره، بالرغم من ترؤس رئيس الجمهورية الاجتماع وحضور كل الوزراء المعنيين، إضافة إلى حاكم مصرف لبنان.
الحريري يتخلّى عن مسؤولياته... ولا يشارك في الاجتماع المالي


ماذا بعد؟ سبق أن أصدر الحريري بياناً يعلن فيه أنه لا يريد أن يعود إلى رئاسة الحكومة، لكنه في الوقت نفسه، يكسر أي محاولة للبحث عن بديل، مدركاً أن ثنائي حزب الله وأمل لا يزال حتى اليوم رافضاً السير بحكومة لا يكون الحريري موافقاً عليها، بصفته «الممثل الأول للطائفة السنية». لكن إلى متى يستمر هذا الدلع، الذي ينعكس أولاً على اللبنانيين، ويزيد من صعوبة الخروج من الأزمة. وإلى متى يستمر التمسك به؟
بعدما طُرح اسم الوزير السابق بهيج طبارة، عمد الأخير إلى طرح مجموعة من الشروط. أولها أن يُدعم ترشيحه من قبل الحريري نفسه، لكن الأخير تلكأ. قبل ذلك، كان طبارة قد رسم ملامح حكومته، بما يفترض أن يرضي الحريري. كان الاتفاق على أن تضم أربعة وزراء سياسيين من غير الصف الأول، وكان مطلبه أن يختار أسماء الوزراء الذين يتسلمون ثماني حقائب رئيسية. وقد سبق أن وافق بري أن لا يكون علي حسن خليل في الحكومة، أسوة بجبران باسيل، قبل أن يصرّ لاحقاً على بقائه وزير دولة.
مع طرح اسم سمير الخطيب، الذي لا يزال أكثر الأسماء جدية حتى اليوم، تردد مجدداً أن الحريري يسعى إلى حرق اسمه. حتى عندما التقاه، لم يحسم مصيره. الخطيب أعلن أن اللقاء كان إيجابياً، بخلاف ما تردد، لكن مصادر الحريري أعادت التأكيد أن موقف الكتلة لن يعلن إلا عندما يحدد موعد الاستشارات النيابية. تلك الاستشارات سحر انقلب على الساحر. كان الساحر حتى الأمس، هو رئيس الحكومة المكلف. يتسلم التكليف من رئيس الجمهورية ثم يستعمله أداة للتفاوض. هذه المرة حصل العكس. الاستشارات لم تعلن ورئيس الحكومة لم يكلّف. صار التكليف أداة للتفاوض أيضاً. وفي الحالتين، يبقى القرار مدعوماً بنقص في النص الدستوري، الذي لا يعطي مهلة للتكليف ولا للتأليف.
مرة جديدة. هل الوقت الحالي هو الوقت المناسب للتشاطر الدستوري أو السياسي؟ الانهيار يزداد ظهوراً يوماً بعد آخر. واللامبالاة تقود إلى التصديق أن السلطة قررت أن لا تتحمل مسؤوليتها، لا بحكومة مكتملة الصلاحيات ولا بحكومة تصريف أعمال.